الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: شرح صحيح البخاري لابن بطال ***
- فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، وَابْن عُمَر، أَنَّ النَّبِىّ عليه السلام قَالَ: (إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لأخِيهِ: يَا كَافِرُ، فَقَدْ بَاءَ بِهِ أَحَدُهُمَا). - وفيه: ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ، قَالَ النَّبِى صلى الله عليه وسلم: (مَنْ حَلَفَ بِمِلَّةٍ غَيْرِ الإسْلامِ كَاذِبًا فَهُوَ كَمَا قَالَ، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَىْءٍ، عُذِّبَ بِهِ فِى نَارِ جَهَنَّمَ، وَلَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ، وَمَنْ رَمَى مُؤْمِنًا بِكُفْرٍ فَهُوَ كَقَتْلِهِ). قال المؤلف: قوله عليه السلام: (من قال لأخيه ياكافر فقد باء به أحدهما) يعنى: باء بأثم رميه لأخيه بالكفر ورجع وزر ذلك عليه إن كان كاذبًا. وقد روى هذا المعنى من حديث أبى ذر أن النبى قال: (لا يرمى رجل رجلا بالفسوق ولا يرميه بالكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك) ذكره البخارى فى باب ماينهى عنه من السباب واللعن فى أول كتاب الأدب. قال المهلب: وهذا معنى تبويبه من كفر أخاه بغير تأويل فهو كما قال، أن المكفر له الذى يرجع عليه إثم التكفير؛ لأن الذى رمى به عند الرامى صحيح الإيمان إذا لم يتأول عليه شيئا يخرجه من الإيمان فكما هو صحيح الإيمان كصحة إيمان الرامى فقد صح أنه أراد برميه له بالكفر كل من هو على دينه فقد كفر نفسه؛ لأنه على دينه ومساو له فى إيمانه، فإن استحق ذلك الكفر المرمى به استحق مثله الرامى وغيره. وقد يجيب الفقهاء من هذا بأن يقولوا: فقد كفر بحق أخيه المسلم، وليس ذلك مما يسمى به الجاحد بحق أخيه المسلم كافرا لأنه لا يستحق من جحد حق أخيه فى بر أو مال. وقد روى اشهب عن مالك أنه سئل عن قوله عليه السلام: (من قال لأخيه ياكافر فقد باء بها أحدهما) قال مالك: أراهم الحرورية. قيل له: أفتراهم بذلك كفارًا؟ قال: لا أدرى ما هذا. والحجة لقول مالك قوله عليه السلام: (سباب المسلم فسوق) والفسوق غير الكفر. وقوله: (فقد باء بها أحدهما) هو على مذهب العرب فى استعمالها الكناية فى كلامها وترك التصريح بالشر، وهذا كقول الرجل لمن أراد أن يكذبه: والله إن أحدنا لكاذب، وهذا كقوله تعالى: {وإنا أو إياكم لعلى هدى أو فى ضلال مبين}. وقوله: (من حلف بمله غير الإسلام كاذبًا فهو كما قال) قد تقدم معناه فى كتاب الجنائز فى باب قاتل النفس، وفى كتاب الإيمان والنذور فى باب من حلف بمله سوى الإسلام بما فيه فكاية لكنى كرهت أن أخلى هذا الباب من الكلام فيه لأنى كثيرًا ماكنت أسأل المهلب عن هذا الحديث لصعوبته فيجيبنى هنه بألفاظ وطرق مختلفة والمعنى واحد. فقال لى: قوله: (فهو كما قال) يعنى: فهو كاذب لا كافر إلا أنه تعمد بالكذب الذى حلف عليه التزام المللة التى حلف بها قال عليه السلام: (فهو كما قال) من التزام اليهودية والنصرانية وعيدًا منه عليه السلام لمن صح قصده بكذبه إلى التزام تلك المللة فى حين كذبه فى وقت ثان، إذ كان ذلك على سبيل المكر والخديعة للمحلوف له. يبين ذلك قوله عليه السلام: (لا يزنى حين يزنى وهو مؤمن) فلم ينف عنه الإيمان إلا وقت الزنا خاصة، وكذلك هذا الحالف بملة غير الإسلام؛ لقيام الدليل على أنه لم يرد نبذ الإسلام بتعليقه يمينه بشرط المحلوف عليه، ولو أراد الارتداد لم يعلق قوله أنا يهودى لمحلوف عليه من معانى الدنيا. ولذلك قال عليه السلام: (من حلف باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله) خشية منه عليه استدامة حاله على ماقال وقتئذ فينفذ عليه الوعيد فيحبط عمله، ويطبع على قلبه لما قال من كلمة الكفر بعد الإيمان، فتكون كلمة وافقت قدرًا فيزين له سوء عمله فيراه حسنًا فيستديم ما قال ويصر عليه. وأما من حلف بملة غير الإسلام وهو فيما حلف عليه صادق فهو تصحيح براءته من تلك الملة مثل أن يقول: أنا يهودي إن طعمت اليوم أو شربت، وهو صادق لم يشرب ولم يأكل، فلما عقد يمينه بشرط هو فى الحقيقة معدوم ماربطه به وهو الأكل والشرب اللذان لم يقعا منه لم يتعين عليه وعيد يخشى إنفاذه عليه، ولم يتوجه إليه إثم الملة التى حلف عليها لعقده نبيته على نفيها كنفى شرطها لكن لا يبرأ من الملامة لمخالفته لقوله عليه السلام: (من كان حالفًا فليحلف بالله). قال الطبرى: وقوله عليه السلام: (لعن المؤمن كقتله) يريد فى بعض معناه لا فى الإثم والعقوبة، ألا ترى أن من قتل مؤمنا أن عليه القود ومن لعنه لا قود عليه؟. واللعن فى اللغة الإبعاد من الرحمة، وكذلك القتل إبعاد المقتول من الحياة التى يجب بها نصره المؤمنين وعون بعضهم لبعض وقد قال عليه السلام: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا) وكذلك قوله: (من رمى مؤمنًا بكفر فهو كقتله) لما أجمع المسلمون أنه لا قتل عليه فى رميه له بالكفر، علم أن التشبيه إنما وقع بينهما فى معنى يجمعهما وهو ماقلناه أن اللعن الإبعاد من الرحمة كما أن القتل إبعاد من الحياة وإعدام منها، وقد بعض العلماء: إن معنى قوله: (لعن المؤمن كقتله) يريد فى تحريم ذلك عليه وقد ذكرته فى كتاب الإيمان والنذور.
وَقَالَ عُمَرُ لِحَاطِبِ: إِنَّهُ مُنَافِقٌ، فَقَالَ النَّبِى صلى الله عليه وسلم: (وَمَا يُدْرِيكَ، لَعَلَّ اللَّهَ قَدِ اطَّلَعَ إِلَى أَهْلِ بَدْرٍ، فَقَالَ: قَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ). - فيه: جَابِر، أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ كَانَ يُصَلِّى مَعَ النَّبِى صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ يَأْتِى قَوْمَهُ، فَيُصَلِّى بِهِمُ الصَّلاةَ، فَقَرَأَ بِهِمُ الْبَقَرَةَ، قَالَ: فَتَجَوَّزَ رَجُلٌ، فَصَلَّى صَلاةً خَفِيفَةً، فَبَلَغَ ذَلِكَ مُعَاذً فَقَالَ: إِنَّهُ مُنَافِقٌ، فَبَلَغَ ذَلِكَ الرَّجُلَ، فَأَتَى النَّبِى صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا قَوْمٌ نَعْمَلُ بِأَيْدِينَا، وَنَسْقِى بِنَوَاضِحِنَا، وَإِنَّ مُعَاذًا صَلَّى بِنَا الْبَارِحَةَ، فَقَرَأَ الْبَقَرَةَ، فَتَجَوَّزْتُ، فَزَعَمَ أَنِّى مُنَافِقٌ، فَقَالَ النَّبِى صلى الله عليه وسلم: (يَا مُعَاذُ، أَفَتَّانٌ أَنْتَ، ثَلاثًا؟ اقْرَأْ: (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس: 1]) وَسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى} [الأعلى: 1] وَنَحْوَهَا). - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ حَلَفَ مِنْكُمْ، فَقَالَ فِى حَلِفِهِ: بِاللاتِ وَالْعُزَّى، فَلْيَقُلْ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبهِ: تَعَالَ، أُقَامِرْكَ، فَلْيَتَصَدَّقْ). - وفيه: ابْن عُمَر، أَنَّهُ أَدْرَكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فِى رَكْبٍ، وَهُوَ يَحْلِفُ بِأَبِيهِ، فَنَادَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (أَلا إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، فَمَنْ كَانَ حَالِفًا، فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ، وَإِلا فَلْيَصْمُتْ). قال المهلب: معنى هذا الباب أن المتأول معذور غير مأثوم، ألا ترى أن عمر بن الخطاب قال لحاطب لما كاتب المشركين بخبر النبى إنه منافق، فعذر النبى عليه السلام عمر لما نسبه إلى النفاق، وهوأسوأ الكفر، ولم يكفر عمر بذلك من أجل ما جناه حاطب، وكذلك عذرا عليه السلام معاذ حين قال للذى خفف الصلاة وقعطها خلفه إنه منافق؛ لأنه كان متأولا فلم يكفر معاذ بذلك. ومثل ذلك قوله عليه السلام حين سمع عمر يحلف بأبيه: (إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآباكم) فلم ير النبى إكفار عمر حين حلف بأبيه وترك الحلف بربه الذى خلقه ورزقه وهداه، وقصده اليمين بغير الله تشريك لله فى حقه لاسيما على طراوة عباده غير الله، فلما لم يعرفه عليه السلام بأن يمينه بأبيه ليس بكفر من أجل تأويله أن له أن يحلف بأبيه للحق الذى له بالأبوة، عذر عمر فى ذلك لجهالته أن الله لا يريد أن يشرك معه غيره فى الإيمان؛ إذ لا يحلف الحالف إلا بأعظم ماعنده من الحقوق، ولا أعظم من حق الله على عباده هذا وجه حديث عمر فى هذا الباب. قال المؤلف: وكذلك عذر عليه السلام من حلف من أصحابه باللات والعزى لقرب عهدهم يجرى ذلك على ألسنتهم فى الجاهلية، وروى عن سعد بن أبى وقاص (أنه حلف بذلك فأتى النبى عليه السلام فقال: يارسول الله، إن العهد كان قريبًا فحلفت باللات والعزى، فقال النبى عليه السلام قل: لا إله إلا الله) وقد تقدم بيان هذا فى باب لا يحلف باللات والعزى فى كتاب الأيمان و النذور، فتأمله هناك. وليس فى قوله صلى الله عليه وسلم: (من حلف باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله) إطلاق منه لهم على الحلف بذلك وكفارته بقول: لا إله إلا الله، فإنه علمهم عليه السلام أنه من نسى أو جهل فحلف بذلك أن كفارته أن يشهد بشهادة التوحيد؛ لأنه قد تقدم إليهم عليه السلام بالنهى عن أن يحلف أحد بغير الله، فعذر الناسى والجاهل، ولذلك سوى البخارى فى ترجمته الجاهل مع المتأول فى سقوط الحرج عنه؛ لأن حديث أبى هريرة فى الجاهل والناسى، والله أعلم.
وقال تعالى: {جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم} - فيه: عَائِشَةَ، دَخَلَ عَلَى النَّبِى عليه السلام وَفِى الْبَيْتِ قِرَامٌ فِيهِ صُوَرٌ، فَتَلَوَّنَ وَجْهُهُ، ثُمَّ تَنَاوَلَ السِّتْرَ فَهَتَكَهُ، وَقَالَتْ: قَالَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ يُصَوِّرُونَ هَذِهِ الصُّوَرَ). - وفيه: أَبُو مَسْعُودٍ، أَتَى رَجُلٌ النَّبِى صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِنِّى لأتَأَخَّرُ عَنْ صَلاةِ الْغَدَاةِ مِنْ أَجْلِ فُلانٍ مِمَّا يُطِيلُ بِنَا، قَالَ: فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ عليه السلام قَطُّ أَشَدَّ غَضَبًا فِى مَوْعِظَةٍ مِنْهُ يَوْمَئِذٍ، قَالَ: فَقَالَ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ، فَأَيُّكُمْ مَا صَلَّى بِالنَّاسِ، فَلْيَتَجَوَّزْ، فَإِنَّ فِيهِمُ الْمَرِيضَ وَالْكَبِيرَ، وَذَا الْحَاجَةِ). - وفيه: ابْن عُمَر، بَيْنَا النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّى رَأَى فِى قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ نُخَامَةً، فَحَكَّهَا بِيَدِهِ، فَتَغَيَّظَ، ثُمَّ قَالَ: (إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا كَانَ فِى الصَّلاةِ فَإِنَّ اللَّهَ حِيَالَ وَجْهِهِ فَلا يَتَنَخَّمَنَّ حِيَالَ وَجْهِهِ فِى الصَّلاةِ). - وفيه: زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ، أَنَّ رَجُلا سَأَلَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم عَنِ اللُّقَطَةِ، فَقَالَ: (عَرِّفْهَا سَنَةً....)، إلى قوله: فَضَالَّةُ الإبِلِ؟ فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام حَتَّى احْمَرَّتْ وَجْنَتَاهُ. - وفيه: زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ: احْتَجَرَ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام حُجَيْرَةً مُخَصَّفَةً، أَوْ حَصِيرًا، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام يُصَلِّى فِيهَا، فَتَتَبَّعَ إِلَيْهِ رِجَالٌ وَجَاءُوا يُصَلُّونَ بِصَلاتِهِ، ثُمَّ جَاءُوا لَيْلَةً، فَحَضَرُوا وَأَبْطَأَ عَنْهُمْ، فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ، فَرَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ وَحَصَبُوا الْبَابَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ مُغْضَبًا.... الحديث. قال المؤلف: الغضب والشدة فى أمر الله وذلك من باب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وأجمعت الأمة على أن ذلك فرض على الأئمة والأمراء أن يقوموا به ويأخذوا على أيدى الظالمين وينصفوا المظلومين ويحفظوا أمور الشريعة حتى لا تغير ولاتبديل، ألا ترى أن النبى عليه السلام غضب وتلون وجهه لما رأى التصاوير فى القرام وهتكه، وقال: (إن أشد الناس عذابًا يوم القيامة المصورون) وكذلك غضب من أجل تطويل الرجل فى صلاته بالناس ونهى عن ذلك، وتغيظ حين رأى النخامة فى القبلة فحكمها بيده ونهى عنها، وكذلك غضب حتى احمر وجهه حين سئل عن ضالة الإبل وقال: (ما لم ولها...) الحديث، وغضب عليه السلام على الذين صلوا فى مسجده بصلاته بغير إذنه ولم يخرج إليهم، ففيه من الفقه جواز الغضب للإمام والعالم فى التعليم والموعظة إذا رأى منكرًا يجب تغييره. وقال مالك: الأمر بالمعروف واجب على جماعة المؤمنين من الأئمة والسلاطين وعامة المؤمنين لا يسعهم التخلف عنه، غير أن بعض الناس يحمله عن بعض بمنزلة الجهاد. واحتج فى ذلك بعض العلماء فقال: كل شىء وجب على الانسان فعله من الفرائض والسنن للازمة، وكل شىء وجب عليه تركه من المحارم التى نهى الله عنها ورسوله فإنه واجب عليه فى القياس أن يأمر بذلك من ضيع شيئًا منه، وينهى كل من أتى شيئًا من المحرمات التى وجب عليه تركها. وقال بعض العلماء: الأمر بالمعروف منه فرض ومنه نافلة، فكل شىء وجب عليه العمل به وجب عليه الأمر به كالمحافظة على الوضوء وتمام الركوع والسجود وإخراج الزكاة وماأشبه ذلك، وماكان نافلة لك فإن أمرك به نافلة وأنت غير آثم فى ترك الأمر به إلا عند السؤال عنه لواجب النصيحة التى هى فرض على جميع المؤمنين، وهذا كله عند جمهور العلماء ما لم تخف على نفسك الأذى، فإن خفت وجب عليك تغيير المنكر وإنكاره بقلبك وهو أضعف الإيمان؛ لأن الله لا يكلف نفسًا إلا وسعها. وقوله: (حجيرة مخصفة) يعنى ثوبًا أو حصيرًا قطع به مكانًا فى المسجد واستتر وراءه، والعرب تقول: خصفت النعل خصفًا: أطبقتها فى الخرز بالمخصف، وهو الإشفاء، وخصفت على نفس ثوابا أو حصيرًا قطع به مكانًا فى المسجد واستتر وراءه، والعرب تقول: خصفت النعل خصفًا: أطبقتها فى الخرز بالمخصف، وهو الإشفاء، وخصفت على نفسى ثوابًا: جمعت بين طرفيه بعود أو خيط، وفى التنزيل: (وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة) عن صاحب الفعال.
لِقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى: 37] وَقَوْلِهِ: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} [آل عمران: 134]. - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم: (لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِى يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ). - وفيه: سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ، اسْتَبَّ رَجُلانِ عِنْدَ النَّبِى صلى الله عليه وسلم، وَنَحْنُ عِنْدَهُ جُلُوسٌ، وَأَحَدُهُمَا يَسُبُّ صَاحِبَهُ مُغْضَبًا قَدِ احْمَرَّ وَجْهُهُ، فَقَالَ النَّبِى صلى الله عليه وسلم: (إِنِّى لأعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ، لَوْ قَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)، فَقَالُوا لِلرَّجُلِ، أَلا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ النَّبِى صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: إِنِّى لَسْتُ بِمَجْنُونٍ. - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَجُلا قَالَ لِلنَّبِي صلى الله عليه وسلم: أَوْصِنِى، قَالَ: (لا تَغْضَبْ)، فَرَدَّدَ مِرَارًا، قَالَ: (لا تَغْضَبْ). قال المؤلف: مدح الله تعالى الذين يغفرون عند الغضب وأثنى عليهم، وأخبر أن ماعنده خير وأبقى لهم من متاع الحياة الدنيا وزينتها، وأثنى على الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس، وأخبر أنه يحبهم بإحسانهم فى ذلك، وقد روى معاذ بن جبل عن النبى عليه السلام أنه قال: (من كظم غيظًا وهو قادر على أن ينفذه دهاه الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يخبره فى أى الحور شاء). وقال عليه السلام: (ليس الشديد بالصرعة) والصرعة: الذى يصرع الناس ويكثر منه ذلك، كما يقال للكثير النوم نومه، وللكثير الحفظ حفظه، فأراد عليه السلام أن الذى يقوى على ملك نفسه عند الغضب ويردها عنه هو القوى الشديد والنهاية فى الشدة لغلبته هواه المردى الذى زينه له الشيطان المغوى، فدل هذا أن مجاهدة النفس أشد من مجاهدة العدو؛ لأن النبى عليه السلام جعل للذى يمكل نفسه عند الغضب من القوة والشدة ماليس للذى يغلب الناس ويصرعهم. ومن هذا الحديث قال الحسن البصرى حين سئل أى الجهاد أفضل؟ فقال: جهادك نفسك وهواك. وفى حديث سليمان بن صرد أن الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم تذهب الغضب، وذلك أن الشيطان هو الذى يزين للإنسان الغضب وكل ما لا تحمده عاقبته ليرديه ويغويه ويبعده من رضا الله تعالى فالاستاذة بالله تعالى منه من أقوى السلاح على دفع كيده، وذكر أيضًا أبو داود فى حديث أبى ذر عن النبى عليه السلام أنه قال: (إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس، فإن ذهب عنه الغضب ولا فليضطجع). وذكر أيضًا من حديث عطية عن النبى عليه السلام أنه قال: (إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق من النار، وإنما تطفأ النار بالماء فإذا غضب أحدكم فليتوضأ). وقال أبو الدرداء: أقرب مايكون العبد من غضب الله تعالى إذا غضب، وفى بعض الكتب قال الله تعالى: ابن آدم اذكرنى إذا غضبت أذكرك إذا غضبت. وقال بكر بن عبد الله: أطفئوا نار الغضب بذكر نار جهنم.
- فيه: عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ، قَالَ النَّبِى صلى الله عليه وسلم: (الْحَيَاءُ لا يَأْتِى إِلا بِخَيْرٍ). فَقَالَ بُشَيْرُ بْنُ كَعْبٍ: مَكْتُوبٌ فِى الْحِكْمَةِ: إِنَّ مِنَ الْحَيَاءِ وَقَارًا، وَإِنَّ مِنَ الْحَيَاءِ سَكِينَةً، فَقَالَ لَهُ عِمْرَانُ: أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَتُحَدِّثُنِى عَنْ صَحِيفَتِكَ. - وفيه: ابْن عُمَر، مَرَّ النَّبِى عليه السلام عَلَى رَجُلٍ، وَهُوَ يُعَاتِبُ أَخَاهُ فِى الْحَيَاءِ، يَقُولُ: إِنَّكَ لَتَسْتَحْيِى حَتَّى كَأَنَّهُ يَقُولُ: قَدْ أَضَرَّ بِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (دَعْهُ، فَإِنَّ الْحَيَاءَ مِنَ الإيمَانِ). - وفيه: أَبُو سَعِيدٍ، كَانَ النَّبِى صلى الله عليه وسلم أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ الْعَذْرَاءِ فِى خِدْرِهَا. وقوله عليه السلام: (الحياء لا يأتى إلا بخير) معناه أن من استحيا من الناس أن يروه يأتى الفجور ويرتكب المحارم، فذلك داعية له إلى أن يكون أشد حياء من ربه وخالقه، ومن استحيا من ربه فإن حياءه زاجر له عن تضييع فرائضه وركوب معاصيه؛ لأن كل ذى فطرة صحيحة يعلم أن الله تعالى النافع له والضار والرزاق والمحى والمميت، فإذا علم ذلك فينبغى له أن يستحى منه عز وجل، وهو قوله عليه السلام: (دعه فإن الحياء من الإيمان) معناه أن الحياء من أسباب الإيمان وأخلاق أهله. وذلك أنه لما كان الحياء يمنع من الفواحش، ويحمل على الصبر والخير كما يمنع الإيمان صاحبه من الفجور، ويقيده عن المعاصى ويحمله على الطاعة صار كالإيمان لمساواته له فى ذلك، وإن كان الحياء غريزة والإيمان فعل المؤمن فاشتبها من هذه الجهة، وقد تقدم فى كتاب الإيمان. وإنما غضب عمران بن حصين؛ لأن بشير كعب حدثه عن صحيفته فيما كان حدثه به عمران عن النبى عليه السلام فهذا أصل أن الحجة إنما هى فى سنة رسول الله لا فيما يروى عن كتب الحكمة؛ لأنه لا يدرى مافى حقيقتها، وقد روى فى هذا الحديث عمران أن بشير بن كعب قال له: إن من الحياء ضعفًا، وعى هذه اللفظة يكون غضب عمران أوكد لمخالفة لقوله عليه السلام: (الحياء لا يأتى إلا بخير) ولقوله للذى كان يقول صاحبه إنك تستحى حتى أضر بك الحياء: (دعه فإن الحياء من الإيمان) فدلت هذه الآثار أن الحياء ليس بضار فى حالة من الأحوال ولا بمذموم.
- فيه: أَبُو مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ النَّبِى صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلامِ النُّبُوَّةِ الأولَى: إِذَا لَمْ تَسْتَحْىِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ). قال الخطابى: قوله: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة) يريد أن الحياء لم يزل مستحسنًا فى شرائع الأنبياء الأولين، وأنه لم ينسخ فى جملة مانسخ من شرائعهم. قال المؤلف: قوله: (فاصنع ما شئت) فيه وجهان: أحدهما: أن يكون خرج بلفظ الأمر على معنى الوعيد والتهدد لمن ترك الحياء كما قال تعالى: {اعملوا ما شئتم) ولم يطلقهم تعالى على الكفر وفعل المعاصى، بل توعدهم بهذا اللفظ؛ لأنه تعالى قد بين لهم مايأتون ومايتركون، وكقوله: (من باع الخمر فليشقص الخنازير) فلم يكن فى هذا إباحة تشقيص الخنازير، إذا الخمر محرم شربها محظور بيعها. والوجه الثانى: أن يكون معناه: اصنع ماشئت من أمر لا تستحى منه تفعله، والتأويل الأول أولى وهو الشائع فى لسان العرب، ولم يقل أحد فى تأويل الآية المذكورة غيره.
- فيه: أُمِّ سَلَمَةَ، أَنّ أُمُّ سُلَيْمٍ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحِى مِنَ الْحَقِّ، فَهَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ غُسْلٌ إِذَا احْتَلَمَتْ؟ فَقَالَ: (نَعَمْ، إِذَا رَأَتِ الْمَاءَ). - وفيه: ابْنَ عُمَرَ، أنّ النَّبِى عليه السلام قَالَ: (مَثَلُ الْمُؤْمِنِ مَثَلِ شَجَرَةٍ خَضْرَاءَ، لا يَسْقُطُ وَرَقُهَا، وَلا يَتَحَاتُّ)، فَأَرَدْتُ أَنْ أَقُولَ هِىَ النَّخْلَةُ، وَأَنَا غُلامٌ شَابٌّ، فَاسْتَحْيَيْتُ، فَقَالَ: (هِىَ النَّخْلَةُ)، فَقَالَ عُمَر: لَوْ كُنْتَ قُلْتَهَا لَكَانَ أَحَبَّ إِلَىَّ مِنْ كَذَا وَكَذَا. - وفيه: أَنَس، جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِى عليه السلام تَعْرِضُ عَلَيْهِ نَفْسَهَا، فَقَالَتْ: هَلْ لَكَ حَاجَةٌ فِىَّ؟ فَقَالَتِ ابْنَتُهُ: مَا أَقَلَّ حَيَاءَهَا، فَقَالَ: هِىَ خَيْرٌ مِنْكِ، عَرَضَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ عليه السلام نَفْسَهَا. قولها: (إن الله لا يستحى من الحق) يدل على أنه لا يجوز الحياء عن السؤال فى أمر الدين، وجميع الحقائق التى تعبد الله عباده بها، وأن الحياء فى ذلك مذموم. وفى حديث ابن عمر أن الحياء مكروه لمن علم علمًا فلم يخبر به بحضرة من هو فوقه إذا سئل عنه، ألا ترى حرص عمر على أن يقول ابنه أنها النخلة، وقد تقدم فى كتاب العلم. وقول النبى عليه السلام: فى المرأة التى عرضت نفسها عليه لابنته (هى خير منك) حجة فى أن لا يستحيا فيما يحتاج إليه. وقوله: (لا يتحات) أى لا يسقط من احتكاك بعضهم ببعض، تقول العرب: حت الورق والطين اليابس من الثوب حتاّ: فركه ونقضه.
وكأن يحب التخفيف واليسر على الناس - فيه: أَنَس، قَالَ النَّبِى صلى الله عليه وسلم: (يَسِّرُوا وَلا تُعَسِّرُوا، وَسَكِّنُوا، وَلا تُنَفِّرُوا). - وفيه: أَبُو مُوسى، لَمَّا بَعَثَهُ النَّبِىّ عليه السلام وَمُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ قَالَ لَهُمَا: (يَسِّرَا وَلا تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلا تُنَفِّرَا، وَتَطَاوَعَا....) الحديث. - وفيه: عَائِشَةَ، مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَمْرَيْنِ قَطُّ إِلا أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا، مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا، فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ، وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام لِنَفْسِهِ فِى شَىْءٍ قَطُّ، إِلا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللَّهِ، فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ بِهَا. - وفيه: الأزْرَقِ بْنِ قَيْسٍ، قَالَ: كُنَّا عَلَى شَاطِئِ نَهَرٍ بِالأهْوَازِ قَدْ نَضَبَ عَنْهُ الْمَاءُ، فَجَاءَ أَبُو بَرْزَةَ الأسْلَمِى عَلَى فَرَسٍ، فَصَلَّى وَخَلَّى فَرَسَهُ، فَانْطَلَقَتِ الْفَرَسُ، فَخَلَّى صَلاتَهُ، وَتَبِعَهَا حَتَّى أَدْرَكَهَا، فَأَخَذَهَا ثُمَّ جَاءَ فَقَضَى صَلاتَهُ، وَفِينَا رَجُلٌ لَهُ رَأْيٌ، فَأَقْبَلَ يَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا الشَّيْخِ، تَرَكَ صَلاتَهُ مِنْ أَجْلِ فَرَسٍ، فَأَقْبَلَ فَقَالَ: مَا عَنَّفَنِى أَحَدٌ مُنْذُ فَارَقْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: إِنَّ مَنْزِلِى مُتَرَاخٍ، فَلَوْ صَلَّيْتُ وَتَرَكْتُهُ، لَمْ آتِ أَهْلِى إِلَى اللَّيْلِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ قَدْ صَحِبَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَأَى مِنْ تَيْسِيرِهِ. - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَالَ فِى الْمَسْجِدِ، فَثَارَ إِلَيْهِ النَّاسُ؟ ليَقَعُوا بِهِ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (دَعُوهُ، وَأَهْرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ- أَوْ سَجْلا مِنْ مَاءٍ- فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ، وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ). قد تقدمت هذه الأحاديث بأمر النبي عليه السلام بتيسر فى كتاب الحدود، وفى كتاب الأحكام. قال الطبرى: ومعنى قوله: (يسروا ولا تعسروا) فيما كان من نوافل الخير دون ماكان فرضا من الله، وفيما خفف الله عمله من فرائضه فى حال العذر كالصلاة قاعدًا فى حال العجز عن القيام، وكالإفطار فى رمضان فى السفر والمرض وشبه ذلك فيما رخص الله فيه لعباده وأمر بالتيسير فى النوافل والإتيان بما لم يكن شاقًا ولافادحًا خشية الملل لها ورفها، وذلك أن أفضل العمل إلى الله أدومه وإن قل، وقال عليه السلام لبعض أصحابه: (لا تكن كفلان كان يقوم الليل فتركه). قال غير الطبرى: ومن تيسره عليه السلام أنه لم يعنف البائل فى المسجد ورفق به، ومن ذلك أبى برزة لصلاته فرسه، وأنه رأى من تيسير النبى ماحمله على ذلك، وجماعة الفقهاء يرون أن من كان فى صلاة فانلتت دابته أنه يقطع صلاته ويتبعها؛ لأن الصلاة تدرك إعادتها وميسر دابته قاطع له. وقد تقدم فى الصلاة. قال الطبرى: وفى أمره عليه السلام بالتيسير فى ذلك معان أحدهما: الأمان من الملال. والثانية: الأمان من مخالصة العجب قلب صاحبه حتى يرى كأن له فضلاً على من قصر عن مثل فعله فيهلك، ولهذا قال عليه السلام: (هلك المتنطعون) وبلغ النبى أن قومًا أرادوا أن يختصوا وحرموا الطيبات واللحم على أنفسهم فقام النبى عليه السلام وأوعد في ذلك أشد الوعيد، وقال: (لم أبعث بالرهبانية وإن خير الدين عند الله الحنفية السمحة، وإن أهل الكتاب هلكوا بالتشديد شدوا فشدد عليهم). وفى هذا من الفقه أن أمور الدنيا نظير ذلك فى أن الغلو وتجاوز القصد فيها مذموم، وبذلك نزل القرآن قال تعالى: {والذين أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قوامًا) فحمد الله فى نفقاتهم ترك الإسراف والإقتار وقال: (وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرًا) الآية، فأمر تعالى بترك التبذير فى سبله التى ترجى بها الزلفة لربه، فالواجب على كل ذى لب أن تكون أموره كلها قصدًا فى عبادة ربه كان أو فى أمر دنياه، فى عداوة كان أو محبة، فى أكل أو شرب أو لباس أو عرى، وبكل هذا ورد الخبر عن السلف أنهم كانوا يفعلون. وأما اجتهاده عليه السلام فى عبادة ربه؛ فإن الله كان خصهّ من القوة بما لم يخص به غيره، فكان مافعل من ذلك سهلا عليه على أنه عليه السلام لم يكن يحى ليله كله قيامًا ولا شهرًا كله صيامًا غير رمضان. وقد قيل: إنه كان يصوم شعبان كله فيصله برمضان، فأما سائر شهور السنة فإنه كان يصوم بعضه ويفطر بعضه، ويقوم بعض الليل وينام بعضه، وكان إذا عمل عملا داوم عليه، فأحق من اقتدى به رسول الله الذى اصطفاه الله لرسالته وانتخبه لوحيه.
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: خَالِطِ النَّاسَ وَدِينَكَ لا تَكْلِمَنَّهُ وَالدُّعَابَةِ مَعَ الأهْلِ. - فيه: أَنَس، إِنْ كَانَ النَّبِى عليه السلام لَيُخَالِطُنَا، حَتَّى يَقُولَ لأخٍ لِى صَغِيرٍ: (يَا أَبَا عُمَيْرٍ، مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ). - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: كُنْتُ أَلْعَبُ بِالْبَنَاتِ عِنْدَ النَّبِىِّ عليه السَّلام وَكَانَ لِى صَوَاحِبُ يَلْعَبْنَ مَعِى- فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام إِذَا دَخَلَ يَتَقَمَّعْنَ مِنْهُ، فَيُسَرِّبُهُنَّ إِلَىَّ فَيَلْعَبْنَ مَعِى. قال المؤلف: كان النبى عليه السلام أحسن الأمة أخلاقًا وابسطهم وجهًا، وقد وصف الله ذلك بقوله: (إنك لعلى خلق عظيم) فكان ينبسط إلى النساء والصبيان ويمازحهم ويداعبهم، وروى عنه أنه قال: (إنى لأمزح ولا أقول إلا حقًا) وكان يسرح إلى عائشة صواحباتها ليلعبن معها، فينبغى للمؤمنين الاقتداء بحسن أخلاقه وطلاقة وجهه صلى الله عليه وسلم. وقال أبو عبيد: قوله: (يتقمعن) يعنى دخل البيت وتغيبن، يقال للإنسان قد انقمع وقمع إذا دخل فى الشىء أو دخل فى بعضه بعض. وقال الصمعى: فيه سمى القمع الذى يصب فيه الدهن وغيره؛ لأنه يدخل فى الإناء. والذى يراد من الحديث: الرخصة فى اللعب التى تلعب بها الجوارى وهى البنات فجاءت فيها الرخصة وهى تماثيل، وليس وجه ذلك عندنا إلا من أجل أنها لهو الصبيان ولو كان فى الكبار لكان مكروهًا كما جاء النهى فى التماثيل كلها وفى الملاهي. وقال غيره: (كنت العب): منسوخ بنهى النبى عليه السلام عن الصور؛ لأن كل من رخص فى الصور فيما كان رقمًا أو فى تصوير الشجر ومالاروح له، كلهم قد أجمعوا أنه لا يجوز تصوير ماله روح. وذكر ابن أبى زيد أنه كره أن يشترى الرجل لأبنته الصور.
وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِى الدَّرْدَاءِ: إِنَّا لَنَكْشِرُ فِى وُجُوهِ أَقْوَامٍ، وَإِنَّ قُلُوبَنَا لَتَلْعَنُهُمْ. - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِى عليه السلام رَجُلٌ، فَقَالَ: (ائْذَنُوا لَهُ، فَبِئْسَ ابْنُ الْعَشِيرَةِ، أَوْ بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ) فَلَمَّا دَخَلَ، أَلانَ لَهُ الْكَلامَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قُلْتَ مَا قُلْتَ، ثُمَّ أَلَنْتَ لَهُ فِى الْقَوْلِ، فَقَالَ: (أَىْ عَائِشَةُ، إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ تَرَكَهُ- أَوْ وَدَعَهُ النَّاسُ- اتِّقَاءَ فُحْشِهِ). - وفيه: الْمِسْوَرِ أُهْدِيَتْ إلى النَّبِى عليه السلام أَقْبِيَةٌ مِنْ دِيبَاجٍ مُزَرَّرَةٌ بِالذَّهَبِ، فَقَسَمَهَا فِى نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَعَزَلَ مِنْهَا وَاحِدًا لِمَخْرَمَةَ، فَلَمَّا جَاءَ، قَالَ: (قَدْ خَبَأْتُ هَذَا لَكَ)، قَالَ أَيُّوبُ: بِثَوْبِهِ، وَأَنَّهُ يُرِيهِ إِيَّاهُ، وَكَانَ فِى خُلُقِهِ شَىْءٌ. قال المؤلف: المدارة من أخلاق المؤمنين وهى خفض الجناح للناس، ولين الكلمة وترك الإغلاظ لهم فى القول وذلك من اقوى أسباب الألفة وسل السخيمة. وقد روى عن النبى عليه السلام أنه قال: (مدارة الناس صدقة). وقال بعض العلماء: وقد ظن من لم ينعم النظر أن المدارة هى المداهنة، وذلك غلط، لأن المدارة مندوب اليها والمداهنة محرمة، والفرق بينهما بين، وذلك أن المادهنة اشتق اسمها من الدهان الذى يظهر على ظواهر الشياء ويستر بواطنها، وفسرها العلماء فقالوا: المداهنة هى أن يلقى الفاسق المظر فيؤالفه ويؤاكله، ويشاربه، ويى أفعاله المنكرة ويريه الرضا بها ولاينكرها عليه ولو بقلبه وهو اضعف الإيمان، فهذه المداهنة التى برأ الله عز وجل منها نبيه عليه السلام بقوله: (ودوا لوتدهن فيدهنون). والمدارة هى الرفق بالجاهل الذى يستتر بالمعاصى ولايجاهر بالكبائر، والمعاطفة فى رد أهل الباطل إلى مراد الله بلين ولطف حتى يرجعوا عما هم عليه. فإن قال قائل: فأين أنت فى قولك هذا من فعل النبى عليه السلام حين دخل عليه المنافق فقال عند دخوله: (بئس ابن العشيرة) ثم حدثه وأثنى عليه شرًا عند خروجه؟. قيل له: إن رسول الله كان مأمورًا بأن لا يحكم على أحد إلا بما ظهر منه للناس لا بما يعلمه دون غيره، وكان المنافقون لا يظهرون له إلا التصديق والطاعة، فكان الواجب عليه أن لا يعاملهم إلا بمثل ما أظهروا له، إذ لو حكم بعلمه فى شىء من الأشياء لكانت سنة كل حاكم أن يحكم بما أطلع عليه فيكون شاهدًا وحاكمًا، والأمة مجمعة أنه لا يجوز ذلك، وقد قال عليه السلام فى المنافقين: (أولئك الذى نهانى الله عن قتلهم). والداخل على النبي عليه السلام إنما كان يظهر فى ظاهر لفظه الإيمان، فقال فيه النبى قبل وصوله إليه وبعد خروجه ماعلمه منه دون أن يظهر له فى وجهه؛ إذ لو أظهره صار حكمًا، وأفاد كلامه بما علمه منه إعلام عائشة بحاله، ولو أنه كان من أهل الشرك ورجا رسول الله إيمانه واستئلافه هو وقومه وإنابتهم إلى الإسلام لم يكن هذا ماهنة؛ لأنه ليس عليه حكم إلا منة الدعاء أى الإسلام لا من وجهة الإنكار والمقاطعة كما فعل عليه السلام مع المشرك رجاء منه وابن أم مكتوم يساله أن يدنيه ويعلمه، فأقبل على المشرك رجاء أن يدخل فى افسلام وتولى عن ابن أم مكتوم، فعاتبه الله فى ذلك، فبان أنه من رسول الله إنصاف أن يظهر لإنسان مايظهر له مما يظهره للناس أجمعين من أحواله مما لا يعلمون منه غيره كما فعل الرسول بابن العشيرة.
وَقَالَ مُعَاوِيَةُ: لا حَكِيمَ إِلا ذُو تَجْرِبَةٍ. - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِى صلى الله عليه وسلم: (لا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ). قال أبو عبيد: تأويل هذا الحديث عننا أنه ينبغى للمؤمن إذا نكب من وجه أن لا يعود لمثله. وترجم له فى كتاب الأمثال باب المحاذرة للرجل من الشىء قد ابتلى بمثله مرة. وفيه: أدب شريف، أدب به النبى أمته ونبههم كيف يحذرون ما يخافون سوء عاقبته، وهذا الكلام مما لم يسبق إليه النبي عليه السلام وقاله لأبي عزة الشاعر، وكان أسر يوم بدر فسأل النبى عليه السلام أن يمن عليه وذكر فقرًا، فمن عليه النبى وأخذ عليه عهدًا أن لا يخصص عليه ولايهجوه، ففعل ثم رجع إلى مكة فاستهواه صفوان بن أمية وضمن له القيام بعياله، فخرج مع قريش وحضض على النبى- عليه السالم- فأسر، فسأل النبى أن يمن عليه فقال: (لا يلدغ المؤمن من حجر مرتين لا تمسح عارضيك بمكة وتقول: سخرت من محمد مرتين ثم أمر به فقتل). وقول معاوية: لا حلم إلا لذى تجربة. يريد أن من جرب الأمور وعرف عواقبها ومايئول إليه أمر من ترك الحلم وركب السفه والسباب من سوء الانتصار منه؛ آثر الحلم وصبر على قليل من الأذى ليدفع به ماهو أكثر منه. وقال الخطابى: معنى قوله: (لا حلم إلا لذى تجربة) أن المرء لا يوصف بالحلم ولا يترقى إلى درجته حتى يركب الأمور ويجربها فيعثر مرة بعد أخرى فيعتبر ويتبين مواضع الخطأ ويجتنبها. وقال ضمرة: الحلم أنفع من العقل؛ لأن الله تسمى به.
- فيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنّ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا...)، الحديث. وقد ذكرته فى كتاب الصوم.
وقوله تعالى: {ضيف إبراهيم المكرمين} - فيه: أَبُو شُرَيْحٍ الْكَعْبِىِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، جَائِزَتُهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وَالضِّيَافَةُ ثَلاثَةُ أَيَّامٍ، وَمَا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ، وَلا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَثْوِىَ عِنْدَهُ حَتَّى يُحْرِجَهُ). - وفيه: عُقْبَة، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ تَبْعَثُنَا، فَنَنْزِلُ بِقَوْم، ٍ لاَ يَقْرُونَنَا، فَمَا تَرَى؟ فَقَالَ لَنَا النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم: (إِنْ نَزَلْتُمْ بِقَوْمٍ، فَأَمَرُوا لَكُمْ بِمَا يَنْبَغِى لِلضَّيْفِ فَاقْبَلُوا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا، فَخُذُوا مِنْهُمْ حَقَّ الضَّيْفِ الَّذِى يَنْبَغِى لَهُ). سئل مالك عن جائزته يوم وليلة، فقال: تكرمه وتتحفه يومًا وليلة، وثلاثة أيام ضيافة. قسم رسول الله عليه السلام أمره إلى ثلاث اقسام: إذا نزل به الضيف أتحفه فى اليوم الأول، وتكلف له على قدر وجه، فإذا كان اليوم الثانى قدم إليه مابحضرته، فذا جاوز هذه الثلاثة كان مخيرًا بين أن يستمر على وتيرته أو يمسك، وجعله كالصدقة النافلة. وقوله: (لا يثوى عنه) لا يقيم، والثواء: الإقامة بالمكان، يعنى لا يقيم عنده بعد الثلاث حتى يضيق صدره، وأصل الحرج الضيق، وإنما كره له المقام عنده بعد الثلاثة لئلا يضيق صدره بمقامه فتكون الصدقة منه على وجه المنّ والأذى فيبطل أجره قال الله تعالى: {لا تبطلوا صداقتكم بالمن والأذى}. وقوله: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه) يعنى من كان إيمانه بالله واليوم الآخر إيمانًا كاملا فينبغى أن تكون هذه حالة وصفته فالضيافة من سنن المرسلين. واختلف العلماء فى وجوب الضيافة، فأوجبها الليث بن سعد فرضًا ليلة واحدة، وأجاز للعبد المأذون له أن يضيف مما بيده، واحتج بحديث عقبة بن عامر. وقال جماعة من أهل العلم: الضيافة من مكارم الأخلاق فى بادية وحاضرة وهو قول الشافعى. وقال مالك: ليس على أهل الحضر ضيافة. وقال سحنون: إنما الضيافة على أهل القرى، وأما الحضر فالفندق ينزل فيه المسافر. واحتج الليث بقوله تعالى: {لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم) أنها نزلت فيمن منع الضيافة فأبيح للضيف لوم من لم يحسن ضيافته، وذكر قبيح فعله، وروى ذلك عن مجاهد وغيره. فيقال لهم: إن الحقوق لا ينتصف منها بالقول، وإنما ينتصف منها بالأداء والإبراء، فلو كانت الضيافة واجبة لوجب عليهم الخروج إلى القوم مما يلزم من ضيافتهم. وفى قوله عليه السلام: (جائزته يوم وليلة) دليل أن الضيافة ليست بفريضة، والجائزة فى لسان العرب: النحلة والعطية، وذلك تفضل وليس بواجب. وأما حديث عقبة بن عامر فتأويله عند جمهور العلماء أنه كان فى أول الإسلام حين كانت المواساة واجبة، فأما إذا أتى الله بالخير والسعة فالضيافة مندوب إليها.
- فيه: أَبُو جُحَيْفَةَ، قَالَ: آخَى النَّبِى عليه السلام بَيْنَ سَلْمَانَ وَأَبِى الدَّرْدَاءِ، فَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ، فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً، فَقَالَ لَهَا: مَا شَأْنُكِ؟ قَالَتْ: أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِى الدُّنْيَا، فَجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ، فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا، فَقَال: َ كُلْ فَإِنِّى صَائِمٌ قَالَ: مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ، فَأَكَلَ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ، ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ، فَقَالَ: نَمْ، فَنَامَ ثُمَّ ذَهَبَ ليَقُومُ فَقَالَ: نَمْ، فَلَمَّا كَانَ آخِرُ اللَّيْلِ، قَالَ سَلْمَانُ: قُمِ الآنَ، قَالَ: فَصَلَّيَا.... الحديث. قال المؤلف: التكلف للضيف لمن قدر على ذلك من سنن المرسلين وآداب النبيين، ألا ترى أن إبراهيم الخليل ذبح لضيفه عجلا سمينًا. قال أهل التأويل: كانوا ثلاثة أنفس: جبريل وميكائيل وإسرافيل فتكلف لهم ذبح عجل وقربه إليهم. وقول نبينا صلى الله عليه وسلم: (جائزته يوم وليلة) يقتضى معنى التكلف له يومًا وليلة لمن وجد، ومن لم يكن من أهل الوجود واليسار فليقدم لضيفه ماتيسر عنده ولايتكلف له مالايقدر عليه، وقد ورد بذلك الخبر عن النبى- عليه السلام. ذكر الطبرى قال: حدثنا محمد بن خالد، عن خراش، حدثنا سلم بن قتيبة، عن قيس بن الربيع، عن عثمان بن شابور عن شقيق بن سلمه قال: (دخلت على سلمان فقرب إلى خبز شعير وملحًا، وقال: لولا أن رسول الله عليه السلام نهى أن تكلف أحدنا ماليس عنه تكلفت لك). فدل بهذا الحديث أن المرء إذا أضافه ضيف أن الحق عليه أن يأتيه من الطعام بما حضره، وأن لا يتكلف له بما ليس عنده، وإن كان ما حضره من ذلك دون مايراه للضيف أهلا؛ لأن فى تكلفة ماليس عنه معان مكروهة. منها: حبس الضيف عن القرى ولعله أن يكون جائعًا فيضر به. ومنها: أن يكون مستعهجلاً فى سفره فيقطعه عنه بحبسه إياه عن إحضاره ماحضره من الطعام إلى إصلاح ما لم يحضر. ومنها: احتقاره ما عظم الله قدره من الطعام. ومنها: خلافه أمر رسول الله وإتيانه ماقد نهى عنه من التكلف. وروى عبد الله بن الوليد عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال: (دخل على جابر بن عبد الله نفر من أصحاب النبى عليه السلام فقرب إليهم خبزًا ثم قال: كلوا فإنى سمعت رسول الله يقول: نعم الإدام الخل، هلاك بالرجل أن يدخل إليه الرجل من إخوانه فيحقر ما فى بيته أن يقدمه إليه، وهلاك بالقوم أن يحتقروا ما قدم إليه). وقال سفيان الثورى: قال ابن سيرين: لا تكرم أخاك بما يشق عليه وفسره الثوري فقال: أئته بحاضر ماعندك ولاتحبسه فعسى أن يشق ذلك عليه. وفى حديث أبى جحيفة زيارة الرجل الصالح صديقه الملاطف ودخوله داره فى غيبته وجلوسه مع أهله. وفيه: شكوى المرأة زوجها إلى صديقه الملاطف ليأخذ على يده ويرده عما يضر بأهله. وفيه: أنه لا بأس أن يأكل الضيف حتى يأكل رب الدار معه. وفيه: أنه لا بأس أن يفطر رب الدار لضيفه فى صيام التطوع. وفيه: كراهية التشدد فى العبادة والغلو فيها خشية مايخاف من عاقبة ذلك، وأن الأفضل فى العبادة القصد والتوسط فهو أحرى بالدوام، ألا ترى قول النبى صلى الله عليه وسلم: (صدق سلمان). وفيه: أن الصلاة آخر الليل أفضل؛ لأنه وقت تنزل الله إلى سماء الدنيا فيستجيب الدعاء.
- فيه: عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِى بَكْرٍ، أَنَّ أَبَاه تَضَيَّفَ رَهْطًا، فَقَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ: دُونَكَ أَضْيَافَكَ، فَإِنِّى مُنْطَلِقٌ إِلَى النَّبِى صلى الله عليه وسلم، فَافْرُغْ مِنْ قِرَاهُمْ، قَبْلَ أَنْ أَجِيءَ، فَانْطَلَقَ عَبْدُالرَّحْمَنِ، فَأَتَاهُمْ بِمَا عِنْدَهُ، فَقَالَ: اطْعَمُوا، فَقَالُوا: أَيْنَ رَبُّ مَنْزِلِنَا قَالَ اطْعَمُوا، قَالُوا: مَا نَحْنُ بِآكِلِينَ حَتَّى يَجِيءَ رَبُّ مَنْزِلِنَا؟ قَالَ: اقْبَلُوا عَنَّا قِرَاكُمْ، فَإِنَّهُ إِنْ جَاءَ وَلَمْ تَطْعَمُوا لَنَلْقَيَنَّ مِنْهُ، فَأَبَوْا، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ يَجِدُ عَلَىَّ، فَلَمَّا جَاءَ تَنَحَّيْتُ عَنْهُ، فَقَالَ: مَا صَنَعْتُمْ؟ فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ: يَا عَبْدَالرَّحْمَنِ، فَسَكَتُّ، ثُمَّ قَالَ: يَا عَبْدَالرَّحْمَنِ، فَسَكَتُّ، فَقَالَ: يَا غُنْثَرُ، أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ إِنْ كُنْتَ تَسْمَعُ صَوْتِى لَمَّا جِئْتَ، فَخَرَجْتُ، فَقُلْتُ: سَلْ أَضْيَافَكَ، فَقَالُوا: صَدَقَ، أَتَانَا بِهِ، قَالَ: فَإِنَّمَا انْتَظَرْتُمُونِى، وَاللَّهِ لا أَطْعَمُهُ اللَّيْلَةَ، فَقَالَ الآخَرُونَ: وَاللَّهِ لا نَطْعَمُهُ حَتَّى تَطْعَمَهُ، قَالَ: لَمْ أَرَ فِى الشَّرِّ كَاللَّيْلَةِ، وَيْلَكُمْ، مَا أَنْتُمْ؟ لِمَ لا تَقْبَلُونَ عَنَّا قِرَاكُمْ، هَاتِ طَعَامَكَ، فَجَاءَهُ فَوَضَعَ يَدَهُ، فَقَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ، الأولَى لِلشَّيْطَانِ، فَأَكَلَ وَأَكَلُوا. قال المؤلف: فقه هذا الحديث أنه ينبغى استعمال أحسن الأخلاق للضيف وترك الضجر لكى تنبسط نفسه، ولا تنقبض وتسقط المؤنة والرقبة خشية أن يظن أن الضجر والغضب من أجله، فلذلك من أدب الإسلام ومايثبت المودة، الا ترى أن الصديق لما رأى إبائة أضيافه من الأكل حتى يأكل معهمآثر الأكل معهم وحنت نفسه، وإنما حمله على الحلف- والله أعلم- أنه استنقص ابنه وأهله فى القيام ببر أضيافه، واشتد عليه تأخير عشائهم إلى ذلك الوقت من الليل، فلحقه ما يلحق البشر من الغضب، ثم لم يسعه مخالفة أضيافه لما أبوا من الأكل دونه، فرأى أن من تمام برهم إسعاف رغبتهم وترك التمادى فى الغضب، وأخذ فى ذلك بقوله عليه السلام: (من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فليكفر عن يمينه، وليأت الذى هو خير)، وكان مذهبه اختيار الكفارة بعد الحنث. وقوله: (بسم الله الأولى للشيطان): يعنى اللقمة الأولى إخزاء للشيطان؛ لأنه هو الذى حمله على الحلف وسول له أن لا يأكل مع أضيافه، وباللقمة الأولى وقع الحنث وبها وجبت الكفارة. وقد تقدم تفسيره قوله: (يا عنثر) فى كتاب الصلاة فى الجزء الثانى فى باب السمر مع الضيف، وسيأتى بعد.
فيه: أبو جحيفة عن النبى صلى الله عليه وسلم - وفيه: عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ أَبِى بَكْرٍ، مثل حديث الباب قبل هذا، وزاد فيه: فَجَعَلُوا لا يَرْفَعُونَ لُقْمَةً إِلا رَبَا مِنْ أَسْفَلِهَا أَكْثَرُ مِنْهَا، فَقَالَ: يَا أُخْتَ بَنِى فِرَاسٍ، مَا هَذَا؟ فَقَالَتْ: وَقُرَّةِ عَيْنِى إِنَّهَا الآنَ لأكْثَرُ قَبْلَ أَنْ يَأَكَلُوا، وَبَعَثَ بِهَا إِلَى النَّبِى صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ أَنَّهُ أَكَلَ مِنْهَا. قال المؤلف: صاحب المنزل فى منزله كالأمير لا ينبغى لحد التقدم عليه فى أمر، يدل على ذلك الحديث الذى جاء عن النبى صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحد فى سلطانه ولا يقعد على تكرمته إلا بإذنه) فكان هذا الحديث أصلاً لهذا المعنى، ودل هذا أنه ينبغى للضيف المصير إلى مايحمله عليه ضيفه، ويشهد لهذا المعنى حديث أنس (أن غلامًا خاياطًا دعا النبى عليه السلام للطعام فقدمه بين يديه، فاكل النبى وأقبل الخياط على عمله) وقد ترجم البخارى فى كتاب الأطعمة باب من أضاف رجلا إلى طعامه وأقبل هو على عمله فدل هذا الحديث أن أكل صاحب الطعام مع الضيف ليس من الواجبات، إلا أنه جاء فى حديث ضيف أبى بكر معنى يختص بخلاف هذا الصل المتقدم، وذلك أن اضيافه اقسموا أن لا يفطروا حتى ينصرف من عند النبى عليه السلام فاحتبس عنده إلى هوى من الليل فبقوا دون أكل. وقد كان ينبغى على ظاهر الأصل المتقدم من أن صاحب المنزل لا ينبغى لأحد التسور عليه فى منزله فى أمرهم أن يفطروا حين عرض عليهم الأكل ولا يأبوه، فلما امتنعوا من ذلك وبقوا غير مفطرين إلى إقبال أبى بكر حنث نفسه أبو بكر فى يمينه التى بدرت منه إيثارًا لموافقتهم؛ بان بذلك أن يجوز للضيف أن يخالف صاحب المنزل فى تأخير الطعام، وشبهه إذا رأى لذلك وجهًا من وجوه المصلحة وأنه لا حرج عليه فى ذلك، ألا ترى أن الصديق وإن كان غضب لتأخر قراهم إلى وقت قدومه لم ينكر عليهم يمينهم، ولا قال لهم: أتيتم مايجوز لكم فعله. ولا شك أن أبا بكر أعلم بذلك النبى عليه السلام حين حمل إليه بقية الطعام، ولم يعنف القوم ولا خطأهم فى يمينهم- والله أعلم- هذا الذى يغل على الوهم؛ لأن أصاحبه كانوا لا يخفون عنه كل مايعرض لهم ليسن لهم فيه. وقد تقدم فى باب السمر مع الضيف والأهل فى كتاب الصلاة شىء من الكلام فى هذا الحديث.
- فيه: رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، وَسَهْلِ بْنِ أَبِى حَثْمَةَ، أَنَّهُمَا حَدَّثَاهُ، أَوْ حدثا أَنَّ عَبْدَاللَّهِ بْنَ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةَ بْنَ مَسْعُودٍ أَتَيَا خَيْبَرَ فَتَفَرَّقَا فِى النَّخْلِ، فَقُتِلَ عَبْدُاللَّهِ بْن سَهْلٍ فَجَاءَ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ، وَحُوَيِّصَةُ، وَمُحَيِّصَةُ ابْنَا مَسْعُودٍ إِلَى النَّبِى عليه السلام فَتَكَلَّمُوا فِى أَمْرِ صَاحِبِهِمْ، فَبَدَأَ عَبْدُالرَّحْمَنِ- وَكَانَ أَصْغَرَ الْقَوْمِ- فَقَالَ لَهُ النَّبِى صلى الله عليه وسلم: (كَبِّرِ الْكُبْرَ)- قَالَ يَحْيَى: يَعْنِى لِيَلِىَ الْكَلامَ الأكْبَرُ... الحديث. - وفيه: ابْن عُمَر، أَنّ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (أَخْبِرُونِى بِشَجَرَةٍ مَثَلُهَا كمَثَلُ الْمُسْلِمِ، تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ، بِإِذْنِ رَبِّهَا، وَلا تَحُتُّ وَرَقَهَا، فَوَقَعَ فِى نَفْسِى أَنَّهَا النَّخْلَةُ، فَكَرِهْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ وَثَمَّ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ...) الحديث. قال المؤلف: إكرام الكبير وتقديمه فى الكلام وجميع الأمور من أدب الإسلام ومعالى الأخلاق، وذكر عبد الرازق أن فى الحديث من تعظيم جلال الله أن يوقر ذو الشبيه فى الإسلام، ولهذا المعنى قال عليه السلام: (كبر الكبر) فأمر أن يبدأ الأكبر بالكلام، فكان ذلك سنة إلا أنه دل حديث ابن عمر أن معنى ذلك ليس على العموم، وأنه إنما ينبغى أن يبدأ بالأكبر فيما يستوى فيه علم الكبير والصغير، فأما إذا علم الصغير مايجهل الكبير؛ فإنه ينبغى لمن كان عنده علم أن يذكره وينزع به وإن كان صغيرًا، ولا يعد ذلك منه سوء أدب، ولا تنقصًالحق الكبير فى التقدم عليه؛ لأن النبى عليه السلام حين سل أصحابه عن الشجرة التى شببها بالمؤمن وفيهم ابنعمر وغيره ممن كان دونه فى السن لم يوقف الجواب على الكبار منهم خاصة، وإنما سأل دونه فى السن لم يوقف الجواب على الكبار منهم خاصة، وإنما سأل جماعتهم ليجيب كل بما علم، وعلى ذلك دل قول عمر لابنه: لو كنت قلتها كان أحب إلى من كذا وكذا. لأن عمر لا يحب ما يخالف أدب افسلام سننه، وقد كان رضى الله عنه يسأل ابن عباس وهو صبى مع المشيخة وكان ذلك معدودًا من فضائله، وقد تقدم هذا المعنى فى باب الحياء فى العلم فى آخر كتاب العلم.
وَقَوْلِهِ تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء: 224] إلى آخر السورة. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَوْلِهِ: {فِى كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} فِى كُلِّ لَغْوٍ يَخُوضُونَ. - فيه: أُبَىَّ بْنَ كَعْبٍ، أَنَّ النَّبِىّ عليه السلام قَالَ: (إِنَّ مِنَ الشِّعْرِ حِكْمَةً). - وفيه: جُنْدَب، بَيْنَمَا النَّبِى عليه السلام يَمْشِى؛ إِذْ أَصَابَهُ حَجَرٌ، فَعَثَرَ، فَدَمِيَتْ إِصْبَعُهُ، فَقَالَ: هَلْ أَنْتِ إِلا إِصْبَعٌ دَمِيتِ *** وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيتِ - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِى صلى الله عليه وسلم: أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ، كَلِمَةُ لَبِيدٍ: أَلا كُلُّ شَىْءٍ مَا خَلا اللَّهَ بَاطِلُ *** وَكَادَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِى الصَّلْتِ أَنْ يُسْلِم. - وفيه: سَلَمَةَ بْنِ الأكْوَعِ، خَرَجْنَا مَعَ النَّبِىّ عليه السلام إِلَى خَيْبَرَ فَسِرْنَا لَيْلا، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ لِعَامِرِ بْنِ الأكْوَعِ: أَلا تُسْمِعُنَا مِنْ هُنَيْهَاتِكَ؟ قَالَ: وَكَانَ عَامِرٌ رَجُلا شَاعِرًا، فَنَزَلَ يَحْدُو بِالْقَوْمِ، يَقُولُ: اللهم لولا أنت ما اهتدينا *** ولا تصدقنا ولا صلينا فاغفر فداء لك ما اقتقينا *** إلى آخرها. فَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: (مَنْ هَذَا السَّائِقُ)؟ قَالُوا: عَامِرُ بْنُ الأكْوَعِ، فَقَالَ: (يَرْحَمُهُ اللَّهُ)، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: وَجَبَتْ يَا نَبِى اللَّهِ، لَوْلا أَمْتَعْتَنَا بِهِ، قَالَ: فَأَتَيْنَا خَيْبَرَ، فَحَاصَرْنَاهُمْ، حَتَّى أَصَابَتْنَا مَخْمَصَةٌ شَدِيدَةٌ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ فَتَحَهَا عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا أَمْسَى النَّاسُ الْيَوْمَ الَّذِى فُتِحَتْ عَلَيْهِمْ، أَوْقَدُوا نِيرَانًا كَثِيرَةً، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا هَذِهِ النِّيرَانُ؟ عَلَى أَى شَىْءٍ تُوقِدُونَ؟ قَالُوا: عَلَى لَحْمٍ، قَالَ: عَلَى أَى لَحْمٍ؟ قَالُوا: عَلَى لَحْمِ حُمُرٍ إِنْسِيَّةٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَهْرِقُوهَا وَاكْسِرُوهَا، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوْ نُهَرِيقُهَا وَنَغْسِلُهَا؟ قَالَ: أَوْ ذَاكَ، فَلَمَّا تَصَافَّ الْقَوْمُ كَانَ سَيْفُ عَامِرٍ فِيهِ قِصَرٌ، فَتَنَاوَلَ بِهِ يَهُودِيًّا؛ لِيَضْرِبَه، ُ وَيَرْجِعُ ذُبَابُ سَيْفِهِ، فَأَصَابَ رُكْبَةَ عَامِرٍ، فَمَاتَ مِنْهُ، فَلَمَّا قَفَلُوا، قَالَ سَلَمَةُ: رَآنِى رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام شَاحِبًا، فَقَالَ لِى: مَا لَكَ؟ فَقُلْتُ فِدًى لَكَ أَبِى وَأُمِّى، زَعَمُوا أَنَّ عَامِرًا حَبِطَ عَمَلُهُ، قَالَ: مَنْ قَالَهُ؟ قُلْتُ: قَالَهُ فُلانٌ وَفُلانٌ وَفُلانٌ وَأُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ الأنْصَارِىُّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (كَذَبَ مَنْ قَالَهُ، إِنَّ لَهُ لأجْرَيْنِ- وَجَمَعَ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ- إِنَّهُ لَجَاهِدٌ مُجَاهِدٌ قَلَّ عَرَبِىٌّ نَشَأَ بِهَا مِثْلَهُ). - وفيه: أَنَس، أَتَى النَّبِى عليه السلام عَلَى بَعْضِ نِسَائِهِ، وَمَعَهُنَّ أُمُّ سُلَيْمٍ، فَقَالَ: (وَيْحَكَ، يَا أَنْجَشَةُ، رُوَيْدَكَ سَوْقًا بِالْقَوَارِيرِ). قَالَ أَبُو قِلابَةَ: فَتَكَلَّمَ النَّبِى عليه السلام بِكَلِمَةٍ لَوْ تَكَلَّمَ بِهَا بَعْضُكُمْ لَعِبْتُمُوهَا عَلَيْهِ قَوْلُهُ سَوْقَكَ بِالْقَوَارِيرِ. قال المؤلف: الشعر والرجز والحداء كسائر الكلام، فما كان فيه ذكر تعظيم لله ووحدانيته وقدرته وإيثار طاعته وتصغير الدنيا والاستسلام له تعالى كنحو ما أورده البخارى فى هذا الباب فهو حسن مرغب فيه، وهو الذى قال فيه عليه السلام: (إن من الشعر حمة) وما كان منه كذبًا وفحشًا فهو الذى ذمه الله ورسوله. وقال الشافعى: الشعر كلام، وحسنه كحسن الكلام وقبيحه كقبيحه. وسماع الحداء ونشيد الأعراب لا بأس به؛ فإن الرسول قد سمعه وأقره ولم ينكره. وهذا الباب رد على من نهى عن قليل الشعر وكثيره، واتعتلوا بحديث جبير بن معظم عن النبى صلى الله عليه وسلم: (أنه كان إذا فتتح الصلاة يستعيذ من الشيطان وهمزه ونفثه ونفخه) وفسره عمرو بن مرة وهو راوى الحديث فقال: نفثه: الشعر، ونفخه: الكبر، وهمزة الموتة التى تأخذ صاحب المس، وبحديث أبى أمامة الباهلى أن النبى عليه السلام قال: لما أنزل إبليس إلى الأرض قال: يارب، وبما روى ابن لهيعة عن أبى قبيل قال: سمعت عبد الله بن عمر يقول: (من قلا ثلاثة أبيات من الشعر من تلقاء نفسه لم يدخل الفردوس). قال الأعمش: تمثل مسروق بأول بيت شعر ثم سكت، فقيل له: لم سكت؟ قال: أخاف أن أجد فى صحيفتى شعرًا. وقال ابن مسعود: الشعر مزامير الشيطان. وكان الحسن لا ينشد الشعر. قال الطبرى: وهذه أخبار واهية والصحيح فى ذلك أنه عليه السلام كان يتمثل أحيانًا بالبيت فقال: هل أنت إلا إصبع دميت وفى سبيل الله ما لقيت وقال عليه السلام: (أصدق كلمة قالها الشاعر لبيت لبيد) ثم تمثل بأول البيت وترك آخرون وقالت عائشة: (كان النبى يتمثل يحدو بالشعر بحضرة النبى وقال: من هذا السائق؟ فقالوا: عامر بن الأكوع فقال: يرحمه الله) وأمر حسان بن ثابت وغيره بهجاء المشركين وأعلمهم أن لهم على ذلك جزيل الأجر وقال: (هو أشد عليهم من نضح النبل). وذكر الطبرى عن عمر بن الخطاب وعلى بن أبى طالب وجله الصحابة أنهم أنشدوا الأشعار، وتمثل معاوية بالشعر، وكان ابن أبى مليكة وعكرمة ينشدان الشعر وكان ابن أبى ليلى ينشد والمؤذن يقيم، وعن ابن سيرين أنه كان ينشد الشعر الريق وقال معمر: سمعت الزهرى وقتادة ينشدان الشعر. قال قتادة: وكان ابن مسعود ربما تمثل بالبيت من وقائع العرب. قال شعبة: وكان قتادة ينشد الشعر فأقول له: أنشدك بيتًا وتحدثنى بحديث. وقال أهل التأويل فى قوله تعالى: {والشعراء يتبعهم الغاوون} عم شعراء المشركين يتبعهم غواة الناس ومردة الشياطين وعصاة الجن، ويروون شعرهم؛ لأن الغاوى لا يتبع إلا غاويا مثله. عن ابن عباس وغيره. وقوله: {ألم تر أنهم فى كل واد يهيمون} أى: يمرحون ويمرقون ببما ليس فى الممدوح والمذموم فهم كالهائم على وجهه، والهائم: المخالف القصد. عن أبى عبيدة. {وأنهم يقولون ما لا يفعلون} أى يكذبون والمراد بقوله: {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} ابن رواحة وحسان وكعب بن مالك. عن ابن عباس. وقوله: {وذكروا الله كثيرا} قال ابن عباس: فى خلال كلامهم الناس. وقال ابن زيد: فى شعرهم. وقيل: لم يشغلهم الشعر عن ذكر الله. {وانتصروا من بعد ما ظلموا} يعنى: ردوا على الكفار الذين يهجون النبى- عليه السلام. قال الطبرى: ولا خلاف أن حكم المستثنى مخالف لحكم المستثنى منه، فوضح أن المذموم من الشعراء غير الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأن الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم محمودون غير مذمومين. وقول عامر بن الأكوع: (فاغفر فداء لك ما اقتفينا) فقد زعم بعض أهل الغفلة أن قوله: (فداء لك) تصحيف لا يجوز أن يقال ذلك لله تعالى وليس ذلك كما ظن والشعر صحيح و المعنى فاغفر مااقتفينا أى ما ارتكبنا من الذنوب، تقول العرب: قفوت الشىء قفوا: اتبعت أثره، ومنه قوله تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم}. وقوله: (فداء لك) دعاء منه ربه أن يفديه من عقابه على مااقترف من ذنوبه فكأنه قال: اللهم اغفر لى وافدنى لك أى فدء من عندك فلا تعاقبنى، وقوله: (لك) تبين الفاعل للفداء المعنى بالدعاء كما تقول فى الدعاء سقيا لك، فلك هاهنا مذكور لتبيين المعنى بالدعاء له، والمعنى: سقاك الله، فكذلك قوله: (فداء لك) معناه افدنا من عقابك، وقد جاء هذا الشعر فى كتاب المغازى بلفظ آخر (فاغفر فداء لك ما ابقينا من الذنوب) أى: مارتكناه مكتوبًا علينا ونحو ذلك، فداء لك بالرفع والخفض أيضًا، فوجه الرفع: أن يكون خبر مبتدأ مضمر ونحن فداء لك، كأنك قلت: نحن لتفدنا أو أفدنا كما تقول: نحن ارحمنا وزيد ارحمه، ومن خفض (فداء) شبهه بأمس فبناه على الكسر كبناء الأصوات عليه نحو قولهم: قال الغراب: غاق والجبل طاق، وأنشد سيبويه: مهلا فداء لك الأقوام كلهم *** وتقديره: اغفر افندنا. وأما قول الرجل: (وجبت يا رسول الله) فإنه يعنى الجنة، فهم من دعاء النبى لعامر بالرحمة أنه يستشهد فى تلك الغزاة ويكون من أهل الجنة كما فهم ابن عباس من وقوله: (ورأيت الناس يدخلون فى دين الله افواجا فسبح بحمد ربك واستغفر إنه كان توابا (حضور أجل النبى عليه السلام فلذلك قال الرجل: وجبت يا رسول الله هلا أمتعتنا به. وأما قوله عليه السلام: (وإن له لأجرين إنه لجاهد مجاهد) فيحتمل معنيين- والله أعلم-: أحدهما: أن يكون لما اصاب نفسه وقتلها فى سبيل الله تفضل الله عليه بأن ضاعف أجره مرتين. ويحتمل أن يكون أحد الأجرين لموته فى سبيل الله والأجر الثانى لما كان يحدو به القوم من شعره ويدعو الله فى ثيابهم عند لقاء عدوهم ولك تحضيض للمسلمين وتقوية لنفوسهم، وقد روى نحو هذا المعنى عن النبى. روى معمر، عن الزهرى، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن أبيه أنه قال للنبى صلى الله عليه وسلم: (إن الله قد أنزل في الشعر ما أنزل، قال: إن المؤمن ليجاهد بنفسه ولسانه، والذى نفسى بيده لكأنما ترمون به فيهم نصح النبل). وقوله: (ألا أسمعتنا من هنيهاتك) فإن العرب تقول لكل شىء صغير: هنه، والهنوات من الكلام: ماصغر منها ولم يكن له كبير معنى كما قال الشاعر: على هنوات كلها متتابع *** يريد على صغار من الكلم المستحق بها القطيعة، والنهة كل شىء صغير برز من معظم شىء أو بان منه كزمعه ظلف الشاة وحلمه الثدى والضرع، ويجوز أن يقال: هنية وهنية، وفى كتاب الدعاء: (ألا أسمعتنا من هنياتك) ويقال ذلك للبرهة من الدهر أيضًا. وقوله عليه السلام: (يا أنجشية، رويداك سوقك بالقوارير) فإن القوارير هنا كناية عن النساء الذى على الأبل، أمره بالرفق فى الحداء والإنشاد؛ لأن الحداء يحث الإبل حتى تسرع السير، فلإذا مشت الإبل رويدا أمن على النساء السقوط، وتشبيهه النساء بالقوارير من الاستعارة البديعة؛ لأن القوارير أسرع الأشياء، فأفادت الاستعارة هاهنا من الحض على الرفق بالنساء فى السير ما لم تفده الحقيقة؛ لأنه لو قال له عليه السلام: ارفق فى مشيتك بهن أو ترسل لهم يفهم من ذلك أن التحفظ بالنساء كالتحفظ بالقوارير كما فهم ذلك من الاستعارة لتضمنها من المبالغة فى الرفق ما لم تضمنه الحقيقة. وأنجشة: اسم غلام أسود للنبي- عليه السلام.
- فيه: عَائِشَةَ، اسْتَأْذَنَ حَسَّانُ النَّبِىّ عليه السلام فِى هِجَاءِ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم: (فَكَيْفَ بِنَسَبِى)؟ فَقَالَ حَسَّانُ: لأسُلَّنَّكَ مِنْهُمْ كَمَا تُسَلُّ الشَّعَرَةُ مِنَ الْعَجِينِ. - وفيه: عُرْوَة، ذَهَبْتُ أَسُبُّ حَسَّانَ عِنْدَ عَائِشَةَ، فَقَالَتْ: لا تَسُبُّهُ، فَإِنَّهُ كَانَ يُنَافِحُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ فِى قَصَصِهِ يَذْكُرُ النَّبِى صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: (إِنَّ أَخًا لَكُمْ لا يَقُولُ: الرَّفَثَ- يَعْنِى بِذَاكَ ابْنَ رَوَاحَةَ- قَالَ: إِذَا انْشَقَّ مَعْرُوفٌ مِنَ الْفَجْرِ سَاطِعُ بِهِ مُوقِنَاتٌ أَنَّ مَا قَالَ وَاقِعُ إِذَا اسْتَثْقَلَتْ بِالْكَافِرِينَ الْمَضَاجِعُ وَفِينَا رَسُولُ اللَّهِ يَتْلُو كِتَابَهُ أَرَانَا الْهُدَى بَعْدَ الْعَمَى فَقُلُوبُنَا يَبِيتُ يُجَافِى جَنْبَهُ عَنْ فِرَاشِهِ - وفيه: أَبُو سَلَمَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ حَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ يَسْتَشْهِدُ أَبَا هُرَيْرَةَ، فَيَقُولُ: نَشَدْتُكَ بِاللَّهِ، هَلْ سَمِعْتَ النَّبِىّ عليه السلام يَقُولُ: (يَا حَسَّانُ أَجِبْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ: اللَّهُمَّ أَيِّدْهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ)؟ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: نَعَمْ. - وفيه: الْبَرَاء، قَالَ النَّبِى صلى الله عليه وسلم لِحَسَّانَ: (اهْجُهُمْ- أَوْ هَاجِهِمْ- وَجِبْرِيلُ مَعَكَ). قال المؤلف: هجاء المشركين أهل الحرب وسبهم جائز بهذه الأحاديث وأنه لا حرمة لهم إذا سبوا المسلمين، والانتصار منهم بذمهم وذكر كفرهم وقبيح افعالهم من أفضل الأمال عند الله تعالى ألا ترى قوله عليه السلام لحسان: (أهجهم وجبريل معك) وقوله: (اللهم أيده بروح القدس) وكفى بهذا فضلاً وشرفًا للعمل والعامل به، فأما إذا لم يسب أهل الحرب المسلمين فلا وجه لسبهم؛ لأن الله قد أنزل على نبيه فى قنوته على أهل الكفر: إن الله لم يبعثك لعانًا ولا سبابًا، وإنما بعثك عذابًا، فترك سبهم. فإن قيل: فما دليلك أن النبى عليه السلام إنما أمر حسانًا بهجاء المشركين لينتصر منهم لهجوهم المسلمين؟. قيل: قول عائشة: (إنه كان ينافح عن رسول الله) يقتضى ذلك تقول العرب: نافحت عن فلان ونفحت عنه إذا خاصمت عنه، والمخاصمة والمنافحة لا تكون إلا من اثنين؛ لأنها مفاعلة وكل مفاعلة تكون كذلك، ويبين هذا قوله لأبى هريرة: نشدتك الله هل سمعت النبى يقول: ياحسان أجب عن رسول الله؟ قال: نعم. فبان أن هجاء المشركين إنما كان مجازاة لهم على قبيح قولهم. روى ابن وهب عن جرير بن حازم قال: سمعت ابن سيرين يقول: (هجاء رسول الله والمسلمين ثلاثة رهط من المشركين عمرو بن العاص، وعبد الله بن الزبعرى، وابو سفيان، فقال المهاجرون: يارسول الله، ألا تأمر عليًا أن يهجو عنا هؤلاء القوم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس على نالك. ثم قال رسول الله: إذا القوم نصروا النبى بأيديهم وأسلحتهم فبألسنتهم أحق أن ينصروه. فقالت الأنصار: أرادنا. فأتو حسان بن ثابت، فذكروا له ذلك، فأقبل حتى وقف على النبى عليه السلام فقال: يارسول الله، والذى بعثك بالحق ماأحب أن لى بمقولى مابين صنعاء وبصرى. فقال رسول الله: أنت لها ياحسان. قال. يارسول الله، لا علم لى بقريش. فقال رسول الله لأبى بكر: أخبره عنهم ونقب له فى مثالبهم. فهجاهم حسان وعبد الله بن رواحة وكعب بن مالك). ورواه معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين وقال: العصاص بن وائل مكان عمرو بن العاص. قال المهلب: وأما قوله: (كيف بنسبى؟) فإنه أراد كيف تهجوهم ونسبى المهذب الشريف فيهم فربما مسنى من الهجو ونصيب فقال حسان: (لأسلنك منهم) أى: لأخلصنك من بينهم بالسلامة من الهجاء، أى أهجوهم بما لا يقدح فى نسبهم الماس له عليه السلام، ولكن أهجوهم بسىء أفعالهم وبما يخصهم عارة فى أنفسهم، وتبقى فيهم وصمة من الأخلاق والأفعال المذمومة التى طهر الله نبيه منها ونزهه من عيبها. وقوله فى عبد الله بن رواحة: (إنه لا يقول الرفث فى شعره) فهو حجة أن ماكان من الشعر فيه ذكر الله والأعمال الصالحة، فهو حسن وهو الذى قال فيه عليه السلام: (إن من الشعر حكمة) وليس من المذموم الذى قال فيه عليه السلام: (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا خير له من أن يمتلىء شعرًا).
- فيه: ابْن عُمَر، قَالَ النَّبِى صلى الله عليه وسلم: (لأنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ قَيْحًا خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا). - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم: (لأنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ رَجُلٍ قَيْحًا حتَّى يَرِيهِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا). قال أبو عبيد: فسر العشبى هذا الحديث قال ومعنى قوله: (خير له من أن يمتلىء شعرًا) يعنى: الشعر الذى هجى به النبى- عليه السلام. قال أبو عبيد: ولاذى عندى فى هذا الحديث غير هذا القول؛ لأن الذى هجى به النبى عليه السلام لو كان شطر بيت لكان كفرًا، فكأنه إذا حمل وجه الحديث على امتلاء القلب منه أنه قد رخص فى القليل منه عن القرآن وعن ذكر الله فيكون الغالب عليه، فأما إذا كان القرآن والعلم الغالبين عليه فليس جوفه ممتلئًا من الشعر. وقوله: (حتى يريه) قال الأصمعى: هو من الورى على مثال الرمى، يقال منه: (رجل مورّ) غير مهموز مشدد وهو أن يروى جوفه. وقال أبو عبيد: الورى هو أن يأكل القيح جوفه. وأنشد الصمعى: قالت له وريًا إذا تنحنحا *** أى تدعو عليه بالوري.
- فيه: عَائِشَةَ، إِنَّ أَفْلَحَ أَخَا أَبِى الْقُعَيْسِ اسْتَأْذَنَ عَلَىَّ بَعْدَ مَا نَزَلَ الْحِجَابُ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لا آذَنُ لَهُ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّهُ عَمُّكِ، تَرِبَتْ يَمِينُكِ) الحديث. - وفيه: عَائِشَةَ، أَنّ النَّبِى عليه السلام أَرَادَ أَنْ يَنْفِرَ، فَرَأَى صَفِيَّةَ عَلَى بَابِ خِبَائِهَا كَئِيبَةً حَزِينَةً؛ لأنَّهَا كانت حَاضَتْ، فَقَالَ: (عَقْرَى حَلْقَى- لُغَةٌ لِقُرَيْشٍ...) الحديث. قال المؤلف: قال ابن السكيت: يقال: تربت يداه إذا افتقر ولم يدع عليه بذهاب ماله، وإنما أراد المثل ليرى المأمور بذلك الجد وأنه إن خالفه فقد اساء، وقال الأصمعى: فى قوله صلى الله عليه وسلم: (تربت يمينك)، و (وتربت يداك) معناه الاستثاث كما تقول: انج تكلتك أمك، وأنت لا تريد أن يثكل، وقال أبو عمرو: أصابه التراب ولم يدع بالفقر عليها. وقال أبو زيد: ترب إذا افتقر وإنما أراد بهذا أن فى يديه التراب. قال النحاس: أى ليس يحصل فى يديه إلا التراب. وقال ابن كيسان: المثل جرى على أنه إن فاتك ما أغريتك به افتقرت الذى عرف معناه، وقال غيره: هى كلمة لا يراد بها الدعاء، وإنما تستعمل فى المدح كما قالوا للشاعر إذا أجاد: قاتله الله لقد أجاد، وكما قالوا: ويل أمة مسعر حرب، وهو يتعجب منه ويمدحه ولكنه دعاء على أمه يالويل، وهولايريد الدعاء عليها من غضب، وهذا كلامهم وهو مثل تربت يمينك. واختلف أهل اللغة أيضًا فى تأويل قوله: عقرى حلقى فقال صاحب العين: يقال للمرأة: عقرى حلقى أى مشئومة، ويقال: هو دعاء عليها على يراد عقرها الله وحلقها. وقال أبو على القالى: عقرى من العقر دعاء على الإنسان وعقرًا أيضًا، وحلقى من حلق الرأس دعاء على الإنسان أيضًا، وحلقًا أيضًا. وقال ابن قتيبة: عقرى حلق أى عقرها الله وأصابها بوجع فى حلقها. وقال أبو عبيد فى كتاب الأمثال: ومن الدعاء قولهم عقرًا حلقًا وأهل الحديث يقولون: عقرى حلقى، وقال فى غريب الحديث: عقرى حلقى وعقرًا حلقًا.
- فيه: أُمَّ هَانِئٍ بِنْتَ أَبِى طَالِبٍ، قَالت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، زَعَمَ ابْنُ أُمِّى أَنَّهُ قَاتِلٌ رَجُلا قَدْ أَجَرْتُهُ، فَقَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم: (قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ). قال صاحب الأفعال: يقال: زعم زعمًا وزعمًا وزعمًا ذكر خبرًا لا يدرى أحق هو أم باطل، وزعمت غير مزعم أى قلت غير مقول وادعيت مالا يمكن، وقد روى عن الرسول عليه السلام أنه قال: (زعموا بئس مطية الجرل) رواه وكيع عن الأوزاعى، عن يحيى، عن أبى قلابة، عن أبى مسعود أو عن أبى عبد الله، عن النبى، ومعناه أن من أكثر من الحديث بما لا يصح عنده ولايعلم صدقه لم يؤمن عليه الكذب. وفائدة حديث أم هانى أنها تكلمت بهذه الكلمة بحضرة النبى عليه السلام ولم ينكرها ولا جعلها كاذبة بذكرها.
|