الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: شرح صحيح البخاري لابن بطال ***
- فيه: جابر بن سمرة: قال سعد: (كنت أصلى بهم صلاة رسول الله صلاتى العشى لا أخرم عنها، بحيث أركد فى الأوليين وأحذف فى الأخريين، قال عمر: ذلك الظن بك). - وفيه: أَبو قَتَادَةَ قَالَ: (كَانَ عليه السلام، يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأولَيَيْنِ مِنْ صَلاةِ الظُّهْرِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَتَيْنِ، يُطَوِّلُ فِي الأولَى وَيُقَصِّرُ فِي الثَّانِيَةِ، يُسْمِعُ الآيَةَ أَحْيَانًا، وَكَانَ يَقْرَأُ فِي الْعَصْرِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَتَيْنِ، وَكَانَ يُطَوِّلُ فِي الرَّكْعَةِ الأولَى مِنْ صَلاةِ الصُّبْحِ، وَيُقَصِّرُ فِي الثَّانِيَةِ). - وفيه: خَبَّاب قيل له: أَكَانَ رسول الله يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْنَا: بِأَيِّ شَيْءٍ كُنْتُمْ تَعْرِفُونَ ذلك؟ قَالَ: بِاضْطِرَابِ لِحْيَتِهِ. قال المؤلف: إنما ساق البخارى هذه الآثار؛ لأنه قد روى عن ابن عباس ما يعارضها، وذلك ما روى أبو ذر، عن شعبة مولى ابن عباس، عن ابن عباس أنه سأله رجل أفى الظهر والعصر قراءة؟ فقال: لا. وروى عنه عكرمة قال: قرأ رسول الله فى صلوات وسكت، فنقرأ فيما قرأ ونسكت فيما سكت، فقيل له: فلعله كان يقرأ فى نفسه، فغضب، وقال: تتهم رسول الله. قال الطحاوى: فذهب قوم إلى ما روى عن ابن عباس، فقالوا: لا نرى لأحد أن يقرأ فى الظهر والعصر البتة، وهو قول سويد بن غفلة. وقال الطبرى، قال الآخرون: فى كل صلاة قراءة، غير أنه يجزئ فيما أُمر المصلى أن يخافت فيه بالقراءة قراءته فى ركعتين منها، وله أن يسبح فى باقيها، وروى ذلك عن ابن مسعود، والنخعى، فجعل أهل هذه المقالة سكوت رسول الله على الخصوص، وقالوا: إنما سكت عن القراءة فى الأخريين، وأما الأوليين فإنه كان يقرأ فيهما؛ لأنه لا خلاف بين الجميع أنه كان يقرأ فيما يجهر فيه من الصلوات فى الأوليين قالوا: فحكم ما خافت فيه الإمام بالقراءة حكم ما جهر فيه، فى أن فى الأوليين قراءة وترك القراءة فى الأخريين، هذا قول الكوفيين. وقال آخرون: لم يكن النبى، عليه السلام، ترك القراءة فى شىء من صلاته، ولكنه كان يجهر فى بعض ويخافت فى بعض، هذا قول أهل الحجاز، وأحمد، وإسحاق، وأنكروا قول ابن عباس، وقالوا: قد روى عنه خلاف ذلك بإسناد أصح من إسناد الخبر عنه بإنكار القراءة فى الظهر والعصر. وقال الطبرى: وذلك ما حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا هشام، عن حصين، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: (قد علمت السنة كلها، غير أنى لا أدرى أكان رسول الله يقرأ فى الظهر والعصر أم لا)، ولا يندفع العلم اليقين بغير علم. قال الطحاوى: وقد روى عن ابن عباس من رأيه خلاف ما تقدم عنه، روى إسماعيل ابن أبى خالد، عن العيزار بن حريث، عن ابن عباس قال: (اقرأ خلف الإمام بفاتحة الكتاب فى الظهر والعصر)، فهذا ابن عباس قد قال من رأيه: أن المأموم يقرأ خلف الإمام فى الظهر والعصر، وقد رأينا الإمام يحمل عن المأموم ولم نر المأموم يحمل عن الإمام شيئًا، فإذا كان المأموم يقرأ فالإمام أحرى بذلك. وإذ قد صح عنه أنه قال: لا أدرى أقرأ رسول الله أم لا؟ فقد انتفى ما قال من ذلك؛ لأن غيره قد حقق قراءة رسول الله فيهما، وهو نص حديث أبى قتادة ودليل حديث خباب، وسعد وقد روى عن يحيى فى حديث أبى قتادة: أن النبى كان يقرأ فى الظهر فى الأوليين بأم القرآن وسورتين، وفى الأخريين بأم الكتاب، وهو قاطع للخلاف، ذكره البخارى فى باب يقرأ فى الأخريين بفاتحة الكتاب بعد هذا. وروى سفيان عن ابن جريج، عن عطاء، عن أبى هريرة قال: (فى كل الصلاة قراءة فما أسمعنا رسول الله أسمعناكم، وما أخفاه عنا أخفيناه عنكم). وروى شعبة، عن سماك، عن جابر بن سمرة قال: (كان رسول الله يقرأ فى الظهر بسبح اسم ربك الأعلى). وحماد بن سلمة، عن سماك، عن جابر بن سمرة: (أن نبى الله كان يقرأ فى الظهر والعصر بالسماء والطارق، والسماء ذات البروج). وقال الطبرى: وليس فى خبر ابن عباس إنكاره القراءة فى الظهر والعصر خلاف فيما ثبته عن النبى، عليه السلام، أنه قرأ فيها؛ لأن ابن عباس لم يذكر أن النبى، عليه السلام، قال له: لا قراءة فى الظهر والعصر، وإنما أخبر أنه سكت فيهما، وغير نكير أن يقول إذا لم يسمعه يقرأ أنه سكت، فيخبر بما كان من حاله عنده، والذى أخبر ابن عباس أن النبى لم يقرأ كان الحق عنده، والذى أخبر أنه قرأ فإنه سمع قراءته. فمن سامع منه الآية ومن سامع منه سورة، ومن سامع منه أمره بالقراءة فى الصلاة، فوجه ذلك إلى أنه أمر بالقراءة فى جميع الصلاة، ووجهه غيره إلى أنه أمر بذلك فى بعض الصلاة، ومن رآه يحرك شفتيه فى الظهر والعصر، فوجهه إلى أنه لم يحركهما إلا بقراءة القرآن، فكل أخبر بما عنده، وكل كان صادقًا عند نفسه. والمصيب عين الحق أخبر أنه كان يقرأ فى الظهر والعصر وذلك أن فى خبر أبى قتادة أنه كان يسمعهم الآية أحيانًا، فالشاهد إنما يستحق أن يسمى شاهدًا فيما أخبر عن سماع أو رؤية. فأما من أخبر أنه لم يسمع ولم ير فغير جائز أن يجعل خبره خلافًا لخبر من قال: رأيت أو سمعت؛ لأن من قال: رأيت أو سمعت فهو الشاهد، ومن قال: لم أسمع، فقد أخبر عن نفسه أنه لا شهادة عنده فى ذلك، والنفى لا يكون شهادة فى قول أحد من أهل العلم. وقال الطحاوى: وأما النظر فى ذلك، فإنا رأينا القيام والركوع والسجود فرائض لا تجزئ الصلاة إذا ترك شيئًا منها، وكان ذلك فى سائر الصلوات سواء، فرأينا القعود الأول سنة فى الصلوات كلها سواء، ورأينا القعود الآخر فيه اختلاف بين الناس، منهم من يقول: هو سنة، ومنهم من يقول: هو فرض، وكل فريق منهم قد جعل ذلك فى كل الصلوات سواء، فكانت هذه الأشياء ما كان منها فرضًا فى صلاة كان كذلك فى كل الصلوات، فلما رأينا القراءة فى الصبح والمغرب والعشاء واجبة فى قول المخالف لابد منها، كان كذلك فى الظهر والعصر، وهذه حجج قاطعة على من نفى القراءة فى الظهر والعصر ويراها فرضًا فى غيرها. وفى قول أبى قتادة: وكان يسمعنا الآية أحيانًا: دليل أنه كان ذلك من فعله على القصد إليه والمداومة عليه. وفيه حجة لقول ابن القاسم أنه من جهر فيما يسر فيه أنه لا سجود عليه إذا كان يسيرًا، وروى عن مالك: إذا جهر الفذ فيما يسر فيه جهرًا خفيفًا فلا بأس به، وقد اختلف فيمن أسر فيما يجهر فيه عامدًا، وروى أشهب عن مالك أن صلاته تامة، وقال أصبغ فيمن أسر فيما يجهر فيه أو جهر فى الإسرار عامدًا: فليستغفر الله ولا إعادة عليه. وقال ابن القاسم: يعيد لأنه عابث، وقال الليث: إذا أسر فيما يجهر فيه فعليه سجود السهو، وقال الكوفيون: إذا أسر فى موضع الجهر أو جهر فى موضع السر وكان إمامًا سجد لسهوه، وإن كان وحده فلا شىء عليه، وإن فعله عامدًا فقد أساء وصلاته تامة، وقال ابن أبى ليلى: يعيد بهم الصلاة إذا كان إمامًا، وقال الشافعى: ليس فى ترك الجهر والإسرار سجود. قال المؤلف: ومن لم يوجب السجود فى ذلك أشبه بدليل هذا الحديث؛ لأنه لما كان السر والجهر من سنن الصلاة وكان عليه السلام، قد جهر فى بعض صلاة السِّرِّ ولم يسجد لذلك كان كذلك حكم الصلاة إذا جهر فيها؛ لأنه لو اختلف الحكم فى ذلك لبينه عليه السلام، ووجب بالدليل الصحيح أن يكون إذا أسرَّ فيما يجهر فيه أيضًا لا يلزمه سجود، إذ السرُّ والجهر فى المعنى سواء، ولا وجه لتفريق الكوفيين بين حكم الإمام والمنفرد فى ذلك؛ إذ لا حجة لهم فى كتاب ولا سنة ولا نظر. وفيه: أن الحكم فى السر أن يسمع الإنسان نفسه، وفى حديث خباب الحكم بالدليل؛ لأنهم حكموا باضطراب لحيته عليه السلام، أنه كان يقرأ.
- فيه: حديث خباب، وأبى قتادة المتقدمين فى الباب قبل هذا. وقد تقدم الكلام فى معنى هذا الباب فأغنى عن إعادته، غير أنا نذكر فى هذا الباب من قرأ فى الظهر والعصر من السلف. روى ذلك عن عمر بن الخطاب، وعلى، وابن مسعود، وابن عمر، وزيد بن ثابت، وجابر بن عبد الله، وأبى الدرداء، وخباب، وعبد الله بن مغفل، وعبد الله بن عمر، وأبى هريرة، وعائشة، رضى الله عنهم أجمعين. وقال أبو العالية: العصر على النصف من الظهر، وقال إبراهيم: تضاعف الظهر على العصر أربع مرات، وقال الحسن البصرى: القراءة فى الظهر والعصر سواء، وقال حماد: القراءة فى الظهر والصبح سواء.
- فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ: (إِنَّ أُمَّ الْفَضْلِ سَمِعَتْهُ وَهُوَ يَقْرَأُ: (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا (، فَقَالَتْ: يَا بُنَيَّ، وَاللَّهِ لَقَدْ ذَكَّرْتَنِي بِقِرَاءَتِكَ هَذِهِ السُّورَةَ، إِنَّهَا لآخِرُ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ يَقْرَأُ بِهَا فِي الْمَغْرِبِ). - وفيه: مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ: أَن زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ قَالَ له: مَا لَكَ تَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِقِصَارٍ المفصل، وَقَدْ سَمِعْتُ الرسول يَقْرَأُ بِطُولَ الطُّولَيَيْنِ. وترجم له: (باب الجهر فى المغرب). - فيه: جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يقَرَأَ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ). قال الطحاوى: ذهب قوم إلى الأخذ بحديث أم الفضل وجبير بن مطعم، وزيد بن ثابت وقلدوها، وخالفهم فى ذلك آخرون وقالوا: لا ينبغى أن يقرأ فى المغرب إلا بقصار المفصل، وقالوا: قد يجوز أن يكون يريد بقوله: قرأ بالطور، قرأ ببعضها وذلك جائز فى اللغة، يقال: فلان يقرأ: إذا قرأ بشىء منه. والدليل على صحة ذلك ما روى هشيم عن الزهرى، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه قال: قدمت على النبى لأكلمه فى أسارى بدر فانتهيت إليه، وهو يصلى بأصحابه صلاة المغرب فسمعته يقول: (إن عذاب ربك لواقع ما له من دافع} [الطور: 7، 8]، فكأنما صدع قلبى. فبين هشيم القصة على وجهها، وأخبر أن الذى سمعه) إن عذاب ربك لواقع (لا أنه سمع الطور كلها، وكذلك قول زيد بن ثابت لمروان: لقد سمعت رسول الله يقرأ بطول الطوليين، يجوز أن يكون قرأ ببعضها، والدليل على ذلك ما رواه حماد عن أبى الزبير، عن جابر أنهم كانوا يصلون المغرب ثم ينتضلون. وروى حماد، عن ثابت، عن أنس قال: (كنا نصلى المغرب مع النبى، عليه السلام، ثم يرمى أحدنا فيرى مواقع نبله)، فلما كان هذا وقت انصراف رسول الله من صلاة المغرب استحال أن يكون ذلك، وقد قرأ فيها الأعراف أو نصفها. قال المؤلف: وقد جاء هذا بينًا فى حديث عائشة أن الرسول قرأ فى صلاة المغرب بسورة الأعراف فَرَّقَهَا فى ركعتين، خرجه النسائى من حديث شعيب بن أبى حمزة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة. قال الطحاوى: وقد أنكر الرسول على معاذ بن جبل حين صلى العشاء بالبقرة وقال له: (أفتان أنت، اقرأ بسورة والليل إذا يغشى، والسماء ذات البروج، والسماء والطارق، والشمس وضحاها)، وكره له أن يقرأ فى العشاء مع سعة وقتها، فصلاة المغرب مع ضيق وقتها أحرى بذلك. فإن قال قائل: فهل روى عنه عليه السلام أنه قرأ فى المغرب بقصار المفصل؟. قيل: نعم، روى ابن أبى شيبة عن زيد بن الحباب قال: حدثنا الضحاك بن عثمان قال: حدثنا بكير بن الأشج، عن سليمأن بن يسار، عن أبى هريرة، قال: كان رسول الله يقرأ فى المغرب بقصار المفصل. وروى الشعبى عن ابن عمر: أن رسول الله قرأ فى المغرب بالتين والزيتون، فهذا أبو هريرة يخبر عن النبى أنه كان يقرأ فى المغرب بقصار المفصل، فلو حملنا حديث ابن جبير، وزيد بن ثابت على ما حمله المخالف لتضادت تلك الآثار وحديث أبى هريرة هذا، وإن حملناه على ما ذكرنا ائتلفت، وأولى أن نحمل الآثار على الاتفاق لا على التضاد، فينبغى على هذا أن يقرأ فى المغرب بقصار المفصل وهو قول مالك، والكوفيين، والشافعى، وجمهور العلماء. وأما طول الطوليين، فإن العلماء قالوا: هى سورة الأعراف، ذكر ذلك النسائى فى حديث زيد بن ثابت من رواية ابن وهب، ومن رواية ابن جريج. وقال أبو سليمان الخطابى: طولى تأنيث أطول، والطوليين تثنية الطولى يريد أنه كان يقرأ فيها بأطول السورتين يعنى الأنعام والأعراف. قال غيره: فإن قيل: هى البقرة لأنها أطول السبع الطوال. قيل: لو أراد البقرة لقال: بطول الطول، فلما لم يقل ذلك دل أنه أراد الأعراف، وهى أطول السور بعد البقرة، ويحتمل أن يكون قرأها فى الركعتين من المغرب؛ لأنه لم يذكر أنه قرأ معها غيرها. وفى حديث جبير من الفقه: أن شهادة المشرك بعد إسلامه مقبولة فيما علمه قبل إسلامه؛ لأن جبيرًا كان يوم سمع رسول الله مشركًا، قدم فى أسارى بدر.
- فيه: أَبو هُرَيْرَةَ: أنه قَرَأ فِى الْعَتَمَةَ: إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ، فَسَجَدَ، فَقيل لَهُ: فَقَالَ: سَجَدْتُ خَلْفَ أَبِي الْقَاسِمِ، فَلا أَزَالُ أَسْجُدُ بِهَا حَتَّى أَلْقَاهُ. - وفيه: الْبَرَاءَ: (أَنَّ الرسول كَانَ فِي سَفَرٍ، فَقَرَأَ فِي الْعِشَاءِ فِي إِحْدَى الرَّكْعَتَيْنِ بِالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ). وترجم لحديث البراء: باب (القراءة فى العشاء بالسجدة)، وباب (القراءة فى العشاء). سنة العشاء الجهر بها كالمغرب سواء، وقراءته عليه السلام، فيها بإذا السماء انشقت، وبالتين والزيتون، يدل أنه لا توقيت فى القراءة فى الصلوات لا يجزئ غيره، إلا أنه حين قرأ فى العشاء بالتين والزيتون كان فى سفر، وأما فى الحضر فإنه كان يقرأ: (إذا السماء انشقت)، ونحوها، وأطول منها، وقد قرأ عمر بن الخطاب فى إحدى الركعتين بالتين والزيتون، وترجم لحديث البراء: باب القراءة فى العشاء بالسجدة، وكتب إلى أبى موسى الأشعرى: اقرأ بالناس فى العشاء الآخرة بوسط المفصل، روى سليمان بن يسار، عن أبى هريرة، عن الرسول مثله، وهو قول عمر بن عبد العزيز، واختاره أشهب، وقرأ فيها عثمان بن عفان بالنجم، وقرأ ابن عمر بالذين كفروا والفتح، وهى أطول المفصل، وروى على بن زياد، عن مالك قال: يقرأ فيها بالحاقة ونحوها. وأجاز العلماء للمسافر إذا أعجله أصحابه أو استغيث به لميت يموت أن يقرأ سورة قصيرة، كما قرأ الرسول بالتين والزيتون فى السفر، وهو قول مالك، وقد قرأ أبو هريرة فى العشاء بالعاديات، ويحتمل أن يكون فى سفر أو يكون أعجلته حاجة لذلك، والله أعلم. وأما القراءة بالسجدة فى العشاء وسائر المكتوبات فأجازه من العلماء من قال بالسجود فى المفصل، وقد اختلفت الرواية عن مالك فى ذلك، ففى المدونة: كره مالك للإمام ان يتعمد قراءة سورة فيها سجدة، لئلا يخلط على الناس، فإن قرأها فليسجد، وأكره أن يتعمدها الفذ، وروى عنه أشهب أنه إذا كان مع الإمام قليل من الناس لا يخاف أن يخلط عليهم فلا بأس بذلك، وروى عنه ابن وهب أنه قال: لا بأس أن يقرأ الإمام بالسجدة فى الفريضة.
- فيه: جَابِرَ بْنَ سَمُرَةَ قَالَ: قَالَ عُمَرُ لِسَعْدٍ: لَقَدْ شَكَوْكَ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى الصَّلاةِ، قَالَ: أَمَّا أَنَا، فَأَمُدُّ فِي الأولَيَيْنِ، وَأَحْذِفُ فِي الأخْرَيَيْنِ، وَلا آلُو مَا اقْتَدَيْتُ بِهِ مِنْ صَلاةِ رَسُولِ اللَّهِ، قَالَ: صَدَقْتَ ذَاكَ الظَّنُّ بِكَ، أَوْ ظَنِّي بِكَ. قال الطبرى: فيه البيان أن السنة من الرسول مضت فى صلاة الفريضة أن تكون الركعتان الأوليان أطول من الأخريين أو ركعته الآخرة إن كانت المغرب، وذلك أن سعدًا أخبر عمر أنه يركد فى الأوليين ويخفف فى الأخريين وأنه مُقْتد برسول الله فى ذلك، فإذا كان كذلك فالذى ينبغى لكل مصل مكتوبة أن يفعل كذلك. فإن قيل: أفرأيت إن خالف ذلك فأطال فى ركعتيه الأخريين وخفف فى الأوليين. قيل: نقول: إنه خالف فى ذلك سنة الصلاة غير أن صلاته ماضية لا خلاف بين الجميع فى جوازها، ولو لم يقرأ فى جميعها إلا فاتحة الكتاب، وذلك تسوية بين جميعها فى التخفيف، فإذا كان ذلك غير مفسدها فالواجب أن تكون المخالفة بينهما بإطالة الأخريين وتخفيف الأوليين غير مفسدها. وفى (المختصر)، عن مالك قال: لا بأس أن يقرأ فى الثانية بأطول من قراءته فى الأولى، وقال الطحاوى: ذهب الثورى ومحمد إلى أنه يطيل فى الركعة الأولى من الصلوات كلها. وفى (الواضحة) قال: والصبح والظهر نظيرتان فى طول القراءة ويستحب أن تكون الركعة الأولى أطول. وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف: يطول الركعة الأولى من صلاة الفجر على الثانية، وركعتا الظهر سواء، قال الطحاوى: ولم نجد فى ذلك عن مالك نصًا، وتقدير القراءة يدل أنه كان يرى التسوية دون التفضيل، وحديث سعد يدل على تسوية الأوليين من الظهر والعصر، وقد ذكر البخارى فى باب (القراءة فى الظهر)، حديث أبى قتادة أن نبى الله كان يقرأ فى الركعتين الأوليين من صلاة الظهر بفاتحة الكتاب، وسورتين يطول فى الأولى ويقصر فى الثانية وهو فى العصر كذلك، وهو الحجة للثورى ومحمد أن الركعة الأولى فى كل الصلوات أطول من الثانية، وهو رد لقول أبى حنيفة، وأبى يوسف أن ركعتا الظهر سواء. وقوله: لا آلو: لا أقصر، تقول العرب: ما آليت فى حاجتك وما آلوتك نصحًا: ما قصرت بك عن جهدى، فى كتاب الأفعال.
وَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: قَرَأَ رسول الله بِالطُّورِ. - وفيه: أبو بَرْزَةَ الأسْلَمِيِّ، قَالَ: (كَانَ رسول الله يُصَلِّي الظُّهْرَ حِينَ تَزُولُ الشَّمْسُ، وَالْعَصْرَ، وَيَرْجِعُ الرَّجُلُ إِلَى أَقْصَى الْمَدِينَةِ، وَالشَّمْسُ حَيَّةٌ، وَنَسِيتُ مَا قَالَ فِي الْمَغْرِبِ، وَلا يُبَالِي بِتَأْخِيرِ الْعِشَاءِ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ، وَلا يُحِبُّ النَّوْمَ قَبْلَهَا، وَلا الْحَدِيثَ بَعْدَهَا، وَيُصَلِّي الصُّبْحَ، فَيَنْصَرِفُ الرَّجُلُ، فَيَبصر جَلِيسَهُ، وَكَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ، أَوْ إِحْدَاهُمَا، مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إِلَى الْمِائَةِ). - وفيه: أَبَو هُرَيْرَةَ قال: فِي كُلِّ صَلاةٍ يُقْرَأُ، فَمَا أَسْمَعَنَا رَسُولُ اللَّهِ أَسْمَعْنَاكُمْ، وَمَا أَخْفَى عَنَّا أَخْفَيْنَاه عَنْكُمْ، وَإِنْ لَمْ تَزِدْ عَلَى أُمِّ الْقُرْآنِ أَجْزَأَتْ، وَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ. اتفق العلماء على أن أطول الصلوات قراءة الفجر، وبعدها الظهر إلا أن البخارى لم يدخل غير حديث أبى برزة: أن نبى الله كان يقرأ فى الصبح ما بين الستين إلى المائة، وذكر عن أم سلمة: (أن الرسول قرأ بالطور)، وذكره فى الباب بعد هذا، وذكر فيه ابن عباس: (أنه عليه السلام قرأ: قل أوحى)، وذكر ابن أبى شيبة: سماك، عن جابر بن سمرة: (أن قراءة الرسول فى الفجر كانت ب (قاف)، ونحوها). واختلفت الآثار عن الصحابة فى ذلك، فروى عن أبى بكر الصديق أنه قرأ بسورة البقرة فى الركعتين. وعن عمر بن الخطاب: أنه قرأ بيونس وبهود، وقرأ عثمان بيوسف وبالكهف، وقرأ على بالأنبياء، وقرأ عبد الله بسورتين الآخرة منها بنو إسرائيل، وقرأ معاذ بالنساء، وقرأ عبيدة بالرحمن ونحوها، وقرأ إبراهيم بياسين وأشباهها، وقرأ عمر بن عبد العزيز بسورتين من طوال المفصل. فدل هذا الاختلاف عن السلف أنهم فهموا عن الرسول إباحة التطويل والتقصير فى قراءة الفجر وأنه لا حدَّ فى ذلك لا يجوز تعديه، ويمكن والله أعلم، أن يكون من طول القراءة فيها من الصحابة علم حرص من خلفهم على التطويل وأما اليوم فينبغى التزام التخفيف؛ لأن فى الناس السقيم والكبير وذا الحاجة كما قال عليه السلام، لمعاذ، ألا ترى قول أبو هريرة: (إن لم تزد على أم القرآن أجزأت، فإن زدت فهو خير)، فدل ذلك أنه لا حد فى ذلك، وقد قال مالك فى الرجل يبادر التجارة أو يستغاث به أو يدعى لميت وهو فى الصبح والظهر: أن يقرأ بالسورة القصيرة وكذلك المسافر يعجله أصحابه.
وَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: طُفْتُ وَرَاءَ النَّاسِ وَالنَّبِيُّ يُصَلِّي، وَيَقْرَأُ بِالطُّورِ. - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: (انْطَلَقَ رسول الله فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ عَامِدِينَ إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ، وَقَدْ حِيلَ بَيْنَ الشَّيَاطِينِ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، وَأُرْسِلَتْ عَلَيْهِمُ الشُّهُبُ، فَرَجَعَتِ الشَّيَاطِينُ إِلَى قَوْمِهِمْ، فَقَالُوا: مَا لَكُمْ؟ قَالُوا: حِيلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، وَأُرْسِلَتْ عَلَيْنَا الشُّهُبُ، قَالُوا: مَا حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ إِلا شَيْءٌ حَدَثَ، فَاضْرِبُوا مَشَارِقَ الأرْضِ وَمَغَارِبَهَا، فَانْظُرُوا مَا هَذَا الَّذِي حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، فَانْصَرَفَ أُولَئِكَ الَّذِينَ تَوَجَّهُوا نَحْوَ تِهَامَةَ إِلَى النَّبِيِّ عليه السلام، وَهُوَ بِنَخْلَةَ، عَامِدِينَ إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ، وَهُوَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ صَلاةَ الْفَجْرِ، فَلَمَّا سَمِعُوا الْقُرْآنَ اسْتَمَعُوا لَهُ، فَقَالُوا: هَذَا وَاللَّهِ الَّذِي حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، فَهُنَالِكَ رَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ، فَقَالُوا يَا قَوْمَنَا: (إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} [الجن 1، 2]، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ} [الجن 1]، وَإِنَّمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ قَوْلُ الْجِنِّ). - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: (قَرَأَ الرسول فِيمَا أُمِرَ، وَسَكَتَ فِيمَا أُمِرَ: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم 64]: و) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب 21]). الجهر فى الفجر هى السنة وقد تقدم فى الباب قبل هذا مذاهب العلماء فى القراءة فى الفجر. فإن قال قائل: إن حديث ابن عباس يدل أن الشهب إنما رميت فى أول الإسلام من أجل استراق الشياطين السمع. قيل: رمى الشهب لم يزل قبل الإسلام وعلى مرِّ الدهور، وروى معمر وغيره عن الزهرى، عن على بن حسين، عن ابن عباس فى قوله تعالى: {يجد له شهابًا رصدًا} [الجن: 9]، قال: (بينا الرسول جالس فى نفر من أصحابه إذ رمى بنجم فاستنار فقال: (ما كنتم تقولون إذا كان مثل هذا فى الجاهلية؟) قالوا: كنا نقول: يموت عظيم أو يولد عظيم، قال: (فإنها لا يُرمى بها لموت أحد ولا لحياته ولكن ربنا تعالى، إذا قضى أمرًا سبح حملة العرش، ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم، حتى يبلغ التسبيح هذه السماء، ثم يستخبر أهل السماء حملة العرش ماذا قال ربكم؟ فيخبرونهم، ثم يستخبر أهل كل سماء حتى ينتهى الخبر إلى السماء الدنيا ويخطف الجن السمع، فما جاءوا به على وجهه فهو حق، ولكنهم يزيدون فيه)، قلت للزهرى: أو كان يرمى بها فى الجاهلية؟ قال: نعم. قلت: أرأيت قوله تعالى: {وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابًا رصدًا} [الجن: 9]، قال: غلظت وشدد أمرها حين بعث الله النبى، عليه السلام). وأما قول ابن عباس: (سكت رسول الله فيما أمر) يريد أسرَّ بما أُمِرَ، بدليل قول خباب: أنهم كانوا يعرفون قراءة رسول الله فيما أسر فيه باضطراب لحيته، فسمى السرَّ: سكوتًا، ولا يظن بالرسول أنه سكت فى صلاة صلاها؛ لأنه قد قال: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب).
وَيُذْكَرُ عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ السَّائِبِ: (قَرَأَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمُؤْمِنُينَ فِي الصُّبْحِ، حَتَّى إِذَا جَاءَ ذِكْرُ مُوسَى وَهَارُونَ أَوْ ذِكْرُ عِيسَى أَخَذَتْهُ سَعْلَةٌ، فَرَكَعَ). وَقَرَأَ عُمَرُ فِي الرَّكْعَةِ الأولَى بِمِائَةٍ وَعِشْرِينَ آيَةً مِنَ الْبَقَرَةِ، وَفِي الثَّانِيَةِ بِسُورَةٍ مِنَ الْمَثَانِي. وَقَرَأَ الأحْنَفُ بِالْكَهْفِ فِي الأولَى، وَفِي الثَّانِيَةِ بِيُوسُفَ أَوْ يُونُسَ، وَذَكَرَ أَنَّهُ صَلَّى مَعَ عُمَرَ الصُّبْحَ بِهِمَا. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ بِأَرْبَعِينَ آيَةً مِنَ الأنْفَالِ، وَفِي الثَّانِيَةِ بِسُورَةٍ مِنَ الْمُفَصَّلِ. وقال قَتَادَةُ فِيمَنْ يَقْرَأُ سُورَةً وَاحِدَةً فِي رَكْعَتَيْنِ، أَوْ يُرَدِّدُ سُورَةً وَاحِدَةً فِي رَكْعَتَيْنِ: كُلٌّ كِتَابُ اللَّهِ. وقال عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسِ: كَانَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ يَؤُمُّهُمْ فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ، وَكَانَ كُلَّمَا افْتَتَحَ سُورَةً يَقْرَأُ بِهَا لَهُمْ فِي الصَّلاةِ مِمَّا يَقْرَأُ بِهِ، افْتَتَحَ بِ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهَا، ثُمَّ يَقْرَأُ بسُورَةً أُخْرَى مَعَهَا، وَكَانَ يَصْنَعُ ذَلِكَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، فَكَلَّمَهُ أَصْحَابُهُ، فَقَالُوا: إِنَّكَ تَفْتَتِحُ بِهَذِهِ السُّورَةِ، ثُمَّ لا نَرَى أَنَّهَا تُجْزِئُكَ حَتَّى تَقْرَأَ بِأُخْرَى، فَإِمَّا تَقْرَأُ بِهَا، وَإِمَّا أَنْ تَدَعَهَا، وَتَقْرَأَ بِأُخْرَى، فَقَالَ: مَا أَنَا بِتَارِكِهَا، فإِنْ أَحْبَبْتُمْ أَنْ أَؤُمَّكُمْ بِذَلِكَ فَعَلْتُ، وَإِنْ كَرِهْتُمْ تَرَكْتُكُمْ، وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ مِنْ أَفْضَلِهِمْ، وَكَرِهُوا أَنْ يَؤُمَّهُمْ غَيْرُهُ، فَلَمَّا أَتَاهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرُوهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ: (يَا فُلانُ، مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَفْعَلَ مَا يَأْمُرُكَ بِهِ أَصْحَابُكَ؟، وَمَا يَحْمِلُكَ عَلَى لُزُومِ هَذِهِ السُّورَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ؟) فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّهَا، فَقَالَ: (حُبُّكَ إِيَّاهَا أَدْخَلَكَ الْجَنَّةَ). - فيه: أَبَو وَائِلٍ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَرَأْتُ الْمُفَصَّلَ اللَّيْلَةَ فِي رَكْعَةٍ، فَقَالَ: هَذًّا كَهَذِّ الشِّعْرِ، لَقَدْ عَرَفْتُ النَّظَائِرَ الَّتِي كَانَ رسول الله يَقْرُنُ بَيْنَهُنَّ، فَذَكَرَ عِشْرِينَ سُورَةً مِنَ الْمُفَصَّلِ، سُورَتَيْنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ. اختلف العلماء فى جمع السورتين فى كل ركعة، فأجاز ذلك ابن عمر، وكان يقرأ بثلاث سور فى ركعة، وقرأ عثمان بن عفان، وتميم الدارى القرآن كله فى ركعة. وكان عطاء يقرأ سورتين فى ركعة أو سورة فى ركعتين فى المكتوبة، وقال مالك فى المختصر: لا بأس بأن يقرأ السورتين وثلاث فى ركعة، وسورة أحب إلينا ولا يقرأ بسورة فى ركعتين، فإن فعل أجزأه، وقال مالك فى المجموعة: لا بأس به وما هو من الشأن، وأجاز ذلك كله الكوفيون. وممن كره الجمع بين سورتين فى ركعة زيد بن خالد الجهنى، وأبو العالية، وأبو بكر ابن عبد الرحمن بن الحارث، وأبو عبد الرحمن السلمى وقال: احظ كل سورة حظها من الركوع والسجود. وروى عن ابن عمر أنه قال: إن الله فَصَّل القرآن لتعطى كل سورة حظها من الركوع والسجود، ولو شاء لأنزله جملة واحدة، والقول الأول أولى بالصواب لحديث ابن مسعود: أن النبى، عليه السلام، كان يقرن بين سور المفصل سورتين فى ركعة. قال الطحاوى: وقد قال عليه السلام: (أفضل الصلاة طول القيام)، فذلك حجة على من خالف ذلك، ودليل واضح أن الأفضل من الصلوات ما أطلت فيه القراءة، ولا يكون ذلك إلا بالجمع بين السور الكثيرة فى ركعة وقد فعل ذلك الصحابة والتابعون، وثبت عن ابن عمر أنه فعله بخلاف ما روى عنه، وأما من جهة النظر فإنا رأينا فاتحة الكتاب تقرأ هى وسورة غيرها فى ركعة، ولا بأس بذلك، فالنظر على ذلك أن تكون كذلك سائر السور. وأما القراءة بالخواتيم وبأول سورة، فروى ابن القاسم وعلى عن مالك: إذا بدأ بسورة وختم بأخرى فلا شىء عليه، وقد كان بلال يقرأ من غير سورة، وقد قرأ، عليه السلام، المؤمنين فى الصبح فأخذته سعلة فى ذكر عيسى فركع، وقرأ ابن مسعود بأربعين آية من الأنفال. وأما قراءة سورة قبل سورة ففى (المختصر) عن مالك: أنه لا بأس أن يقرأ فى الثانية بسورة قبل التى قرأ فى الأولى وقراءة التى بعدها أحب إلينا، وروى عنه ابن القاسم ذلك كله سواء ولم يزل ذلك من عمل الناس. وأما تردد سورة واحدة فى الركعتين، ففى (الواضحة)، عن مالك: لا بأس به، وروى ابن القاسم عن مالك فى (العتبية)، أنه سئل عن تكرير (قل هو الله أحد) فى النافلة، فكرهه وقال: هذا مما أحدثوا، ومعنى كراهته لتكريرها يريد فى ركعة واحدة يكررها مرارًا. وفى حديث أنس حجة لمن أجاز تكريرها فى الفريضة فى كل ركعة؛ لقوله عليه السلام للذى كان يكررها: (حبك إياها أدخلك الجنة)، فدل ذلك على جواز فعله ولو لم يجز لبين له ذلك؛ لأنه بعث معلمًا، وقد روى البخارى مثل حديث أنس عن عائشة: (أن الرسول بعث رجلاً على سرية، وكان يقرأ لأصحابه فى صلاتهم فيختم: ب (قل هو الله أحد)، فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبى، عليه السلام، فقال: سلوه لأى شىء يصنع ذلك، فقال: لأنها صفة الرحمن، فقال عليه السلام: (فأخبروه أن الله يحبه)، ذكره فى باب الاعتصام فى باب دعاء النبى، عليه السلام، أمته إلى توحيد الله، تعالى. وقد روى فى الذى كان يقرأ: قل هو الله أحد، أنه كان يرددها فى صلاة النافلة ولا يقرأ غيرها رواه الدارقطنى من حديث مالك، عن عبد الله بن أبى صعصعة، عن أبيه، عن أبى سعيد الخدرى، قال: (وحدثنى أخى قتادة بن النعمان أن رجلاً قام من الليل يقرأ: قل هو الله أحد، يرددها لا يزيد عليها، فجاء رجل إلى الرسول فأخبره، وكان يتقالها، فقال: (إنها لتعدل ثلث القرآن). ففيه حجة لمن أجاز تكرارها فى ركعة واحدة فى النافلة. وروى وكيع، عن عبيد الله بن عبد الرحمن بن موهب، عن محمد بن كعب القرظى، قال: من قرأ فى سبحة الضحى: قل هو الله أحد، عشر مرات بنى له بيت فى الجنة. قال المهلب: وأما إنكار ابن مسعود على الرجل قراءة المفصل فى ركعة، فإنما فعل ذلك ليحضه على تدبر القرآن؛ لقوله تعالى: {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها} [محمد: 24]، لا أنه لا تجوز قراءة المفصل فى ركعة، فقد تجوز قراءة القرآن بغير تدبر، وقد جاء فى الحديث: أن الله جعل فى كل حرف منه عشر حسنات، فإن تدبره أعظم لأجره إلى ما لا نهاية له من تفضل الله تعالى. وقال أبو عبد الله بن أبى صفرة: قول ابن مسعود: (لقد عرفت النظائر التى كان رسول الله يقرن بينهن، فذكر عشرين سورة من المفصل سورتين فى كل ركعة)، فدل أن صلاته بالليل عليه السلام، كانت عشر ركعات، وكان يوتر بواحدة. وقوله: قرأ عمر بسورة من المثانى، فقال شيبان النحوى: المثانى: ما لم تبلغ مائة آية، وقال طلحة بن مصرف: المثانى: عشرون سورة، والمئون إحدى عشرة سورة، وروى عن ابن مسعود مثله، قال أهل اللغة: إنما سميت مثانى؛ لأنها ثنت المئين، أى: أتت بعدها، والمفصل سمى مفصلاً لكثرة السور فيه، والفصول، يعنى: بسم الله الرحمن الرحيم، عن ابن عباس.
- فيه: أَبو قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ، عن النَّبِيَّ عليه السلام: (كَانَ يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ فِي الأولَيَيْنِ بِأُمِّ القرآن وَسُورَتَيْنِ، وَفِي الرَّكْعَتَيْنِ الأخْرَيَيْنِ بِأُمِّ القرآن، وَيُسْمِعُنَا الآيَةَ، وَيُطَوِّلُ فِي الرَّكْعَةِ الأولَى، مَا لا يُطَوِّلُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، وَهَكَذَا فِي الْعَصْرِ، وَهَكَذَا فِي الصُّبْحِ). وقد تقدم معنى هذا الباب فى باب القراءة فى الظهر، ونزيده هاهنا بيانًا وذلك أن حديث أبى قتادة هذا من رواية همام بيّن فى ردِّ قول الكوفيين ومن وافقهم أن الركعتين الأخريين إن شاء قرأ فيهما وإن شاء سبح؛ لأن همامًا بيَّن فى روايته لهذا الحديث أن النبى، عليه السلام، قرأ فى الركعتين الأخريين من الظهر بفاتحة الكتاب، وقال: إنه كان يسمعهم الآية أحيانًا، فثبت قول من أوجب القراءة فى كل ركعة وسقط قول من قال بالتسبيح فى الأخريين من الظهر والعصر؛ لأنه مخصوص بالسُّنَّةِ الثابتة، وأيضًا فإنه عليه السلام قال: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)، ولما كانت الركعة الواحدةُ صلاةً، بإجماع أن الوتر ركعة وهى صلاة، دل أن القراءة واجبة فى كل ركعة بفاتحة الكتاب. وفيه: أن الركعتين الأوليين أطول من الأخريين فى كل صلاة؛ لأنه إذا قرأ فى الأوليين بأم القرآن وسورة، وقرأ فى الأخريين بأم القرآن وحدها، دل أن الأوليين أطول من الأخريين. وترجم له: (باب إذا أسمع الإمام الآية)، وقد تقدم القول فيه. وترجم له: (باب يطول فى الركعة الأولى)، وذلك بَيِّن فى الحديث.
وَقَالَ عَطَاءٌ: آمِينَ، دُعَاءٌ أَمَّنَ ابْنُ الزُّبَيْرِ، وَمَنْ وَرَاءَهُ حَتَّى إِنَّ لِلْمَسْجِدِ لَلَجَّةٌ. وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُنَادِي الإمَامَ: لا تَفُتْنِي بِآمِينَ. وقال نَافِعٌ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ لا يَدَعُهُ، وَيَحُضُّهُمْ عليه، وَسَمِعْتُ مِنْهُ فِي ذَلِكَ خَيْرًا. - وفيه: أَبو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام، قَالَ: (إِذَا أَمَّنَ الإمَامُ، فَأَمِّنُوا، فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلائِكَةِ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ). وَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَقُولُ: (آمِينَ). اختلف العلماء فى الإمام يقول: آمين، فروى مطرف، وابن الماجشون، عن مالك أن الإمام يقول: آمين كالمأموم على حديث أبى هريرة، وهو قول أبى حنيفة، والثورى، والليث، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور. وقالت طائفة: لا يقول الإمام: آمين، وإنما يقول ذلك من خلفه، وإن كان وحده قالها، هذا قول مالك فى المدونة، وقاله المصريون من أصحابه. وحجة هذا القول قوله، عليه السلام: (إذا قال الإمام: (غير المغضوب عليهم ولا الضالين} [الفاتحة: 7]، فقولوا: آمين)، قالوا: فلو كان الإمام يقول آمين، لقال عليه السلام: إذا قال الإمام: آمين، فقولوا: آمين، ووجدنا فاتحة الكتاب دعاء، فالإمام داع والمأموم مؤمن، وكذلك جرت العادة أن يدعو واحد ويؤمن المستمع، وقد قال تعالى فى قصة موسى وهارون: (قد أجيبت دعوتكما} [يونس: 89]، فسماهما داعيين، وإنما كان موسى يدعو وهارون يؤمن، فدل ذلك أن الإمام داع بما فى فاتحة الكتاب والمأموم مستجيب؛ لأن معنى آمين فى اللغة: استجب لنا. واحتج أهل المقالة الأولى بقوله عليه السلام: (إذا أمن الإمام فأمنوا)، قالوا: وذلك يدل أن الإمام يقول: آمين، ومعلوم أن قول المأموم هو: آمين فكذلك ينبغى أن يكون قول الإمام. قالوا: وكذلك قول أبى هريرة للإمام: لا تسبقنى بآمين يدل أن الإمام يقول: آمين؛ ألا ترى قول ابن شهاب: كان رسول الله يقول: (آمين). واختلفوا فى الجهر بها، فذهب الشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور إلى الجهر بها، وروى ابن وهب، وأبو مصعب عن مالك أن الإمام يُسر بها وهو قول الكوفيين، وروى ذلك عن عمر، وعلى، وابن مسعود، وعن النخعى، والشعبى، وابن أبى ليلى. وحجة من جهر بها قوله عليه السلام: (إذا أمن الإمام فأمنوا)، وها يدل أنه ينبغى أن يكون قولهم بعد قوله كتكبيرهم بعد تكبيره، فلو أن الإمام يُسرُّ بها لم يمكن من وراءه أن يؤمنوا بتأمينه. وقد قال عطاء: كنت أسمع الأئمة يقولون على إثر أم القرآن: آمين، هم ومن وراءهم حتى إن للمسجد لَلَجَّة. ووجه الإخفاء بها قوله تعالى: {ادعوا ربكم تضرعًا وخفية} [الأعراف: 55]، وقد مدح الله زكريا بقوله: (إذ نادى ربه نداء خفيا} [مريم: 3]، وقال ابن وهب: عن مالك لم أسمع فى الجهر بها للإمام إلا حديث ابن شهاب، ولم أره فى حديث غيره. واللّجة: اختلاط الأصوات، وأَلَجَّ القوم: إذا سمعت لهم لجة، أى: صوتًا، والتجت الأصوات: اختلطت، من كتاب العين. قال المؤلف: معنى قول أبى هريرة للإمام: لا تسبقنى بآمين، أى: لا تحرم فى الصلاة حتى أفرغ من الإقامة لئلا تسبقنى بقراءة أم القرأن فيفوتنى التأمين معك، وهو حجة لمذهب الكوفيين لأنهم يقولون: إذا بلغ المؤذن فى الإقامة إلى قوله: قد قامت الصلاة وجب على الإمام الإحرام، والفقهاء على خلافهم، لا يرون إحرام الإمام إلا بعد تمام الإقامة وتسوية الصفوف، وقد تقدم بيان هذا فى باب الإمام تعرض له الحاجة بعد الإقامة فى أبواب الأذان.
- فيه: أَبو هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: (إِذَا قَالَ أَحَدُكُمْ: آمِينَ، وَقَالَتِ الْمَلائِكَةُ فِي السَّمَاءِ: آمِينَ، فَوَافَقَتْ إِحْدَاهُمَا الأخْرَى، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ). وقال المهلب: كان أبو محمد الأصيلى يقول فى معنى الموافقة فى هذا الحديث أن تقول الملائكة: آمين، كما يقول المصلون، ولا يراعى موافقة المؤمن؛ لأنه قد يقول القائل: وافقت فلانًا على قول كذا إذا قال مثله وسواء قاله قبله أو بعده، وإنما يأجر الله تعالى، على الاتفاق فى القول والنية لا على وقوع الكلام فى زمن واحد. قال المهلب: والذى يشتق من ظاهر هذا الحديث أن يكون قول الملائكة وقول المصلين فى زمن واحد. قال غيره: وتأمين الملائكة هو استغفارهم للمصلين ودعاؤهم أن يستجيب الله منهم كما قال تعالى: {ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شىء رحمة وعلمًا فاغفر للذين تابوا} [غافر: 7] الآية، فإذا كان تأمين العبد مع تأمين الملائكة يرتفعا إلى الله فى زمن واحد، وتأمين الملائكة مجاب وشفاعتهم يوم القيامة مقبولة فيمن استشفعوا له، فلا يجوز فى تفضل الله أن يجاب الشفيع إلا وقد عم المشفوع له الغفران، والله أعلم، وهذا أولى بتأويل الحديث.
- فيه: أَبو هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: (إِذَا قَالَ الإمَامُ: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة 7] فَقُولُوا: آمِينَ، فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ الْمَلائِكَةِ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ). اختلف العلماء فى تأويل هذا الحديث، فقالت طائفة: قوله: (إذا قال الإمام: (غير المغضوب عليهم ولا الضالين (، فقولوا: آمين)، خطاب للمأمومين أن يقولوا: آمين، دون الإمام قالوا: وهذا ظاهر الحديث ولم يرو للإمام قول آمين، وهى رواية ابن القاسم عن مالك. وقالت طائفة أخرى: معناه: إذا بلغ الإمام موضع التأمين وهو قوله: (غير المغضوب عليهم ولا الضالين (، وقال: آمين، فقولوا: آمين. واحتجوا بما رواه معمر، عن الزهرى، عن سعيد بن المسيب، عن أبى هريرة قال: قال رسول الله: (إذا قال الإمام: (غير المغضوب عليهم ولا الضالين (، فقولوا: آمين، فإن الملائكة تقول: آمين، وإن الإمام يقول: آمين، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه). وبما رواه الليث، عن خالد بن يزيد، عن أبى هلال، عن نعيم المجمر قال: صليت وراء أبى هريرة فقرأ بأم القرآن، فلما بلغ: (غير المغضوب عليهم ولا الضالين (، قال: آمين، وقال الناس: آمين، فلما سلم قال: والله إنى لأشبهكم صلاة برسول الله، فهذا فعل أبى هريرة وهو راوى الحديث عن الرسول، وأقسم أنه أشبههم صلاة برسول الله، فعلى هذا ينتفى التعارض من هذا الحديث، وبين قوله: إذا أمن الإمام فأمنوا. وقد جمع الطبرى بين الحديثين فقال: ليس فى أحدهما دفع لصاحبه؛ لأن الحديثين كلاهما عن أبى هريرة، وذلك أن التأمين فى الصلاة ليس من الأمور التى لا يجوز تركها، وإنما المصلى مندوب إليه إمامًا كان أو مأمومًا، فأخبر عليه السلام، أن المأموم إذا أمن بعد فراغ الإمام من فاتحة الكتاب فله من الأجر ما ذكر، وكذلك إذا أمن بعد تأمين الإمام فله من الأجر مثل ذلك، وليس فى أحد الحديثين معنى يدفع ما فى الآخر، بل فى كل واحد منهما ما فى الآخر من وجه، وفيه ما ليس فى الآخر من وجه، فالذى فيه ما ليس فى الآخر أمر من خلف الإمام بالتأمين إذا أمن القارئ، والذى فى الآخر أمرٌ لهم بالتأمين إذا قال الإمام: (ولا الضالين (، وإن لم يؤمن الإمام، فذلك زيادة معنى على ما فى الحديث الآخر، وأما ما هما متفقان فيه ما لقائل ذلك من الثواب، وهذا المراد من الحديث سواء أمن الإمام أم لا. وأما جهر المأموم بالتأمين فليس بينا فى الحديث؛ لأن قوله عليه السلام: (فقولوا آمين)، لا يقتضى الجهر دون السر، لكن لما كان الإمام يجهر بالتأمين، ولولا ذلك ما سمعه المأموم، وكانوا مأمورين باتباع الإمام فى فعله وجب على المأموم الجهر بها كما جهر بها الإمام، هذا وجه الترجمة. وقد اختلف العلماء فى ذلك فقال عطاء، وعكرمة: لقد أتى علينا زمان إذا قال الإمام: (ولا الضالين (سمعت لأهل المسجد رجة من قولهم: آمين. وقالت طائفة: يُسرُّ بها المأموم، وقال الطبرى: والخبر بالجهر بآمين والمخافتة بها صحيحان، وقد عمل بكل واحد منهما جماعة من علماء الأمة، وذلك يدل أنه مما خيرهم رسول الله فى العمل بأى ذلك شاءوا، ولذلك لم ينكر بعضهم على بعض ما كان منهم فى ذلك، وإن كنت مختارًا خفض الصوت بها؛ إذ كان أكثر الصحابة والتابعين على ذلك.
- فيه: أَبو بَكْرَةَ: (أَنَّهُ انْتَهَى إِلَى النَّبِيِّ عليه السلام، وَهُوَ رَاكِعٌ، فَرَكَعَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى الصَّفِّ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ عليه السلام، فَقَالَ: زَادَكَ اللَّهُ حِرْصًا، وَلا تَعُدْ). اختلف العلماء فيمن ركع دون الصف، فروى عن زيد بن ثابت، وابن مسعود، أنهما ركعا دون الصف ومشيا إلى الصف ركوعًا، وفعله سعيد بن جبير، وعروة بن الزبير، وأبو سلمة، وعطاء، وقال مالك، والليث: لا بأس أن يركع الرجل وحده دون الصف ويمشى إلى الصف إذا كان قريبًا قدر ما يلحق به. وقال أبو حنيفة، والثورى: يكره للواحد أن يركع دون الصف ثم يتقدم، ولا يكره ذلك للجماعة، ذكره الطحاوى، قال: وأجاز مالك، والكوفيون، والليث، والشافعى صلاة المنفرد دون الصف وحده، قال مالك: ولا يجذب إليه رجلاً، وقال الأوزاعى، وأحمد، وإسحاق، وأهل الظاهر: إن ركع وحده دون الصف بطلت صلاته، واحتجوا بقوله عليه السلام لأبى بكرة: (زادك الله حرصًا ولا تعد)، فدل أن صلاته غير صحيحة. قالوا: وقد قال أبو هريرة: لا تكبر حتى تأخذ مقامك من الصف. قال الطحاوى: وحجة أهل المقالة الأولى أن أبا بكرة ركع دون الصف، فلم يأمره النبى بإعادة الصلاة، ولو كان من صلى خلف الصف وحده لا تجزئه صلاته لكان من دخل فى الصلاة خلف الصف لا يكون داخلاً فيها، فلما كان دخول أبى بكرة فى الصلاة دون الصف دخولاً كانت صلاة المصلى كلها دون الصف صحيحة. فإن قيل: فما معنى قوله: (ولا تعد؟). قيل: له عندنا معنيان: أحدهما: لا تعد أن تركع دون الصف حتى تقوم فى الصف كما روى ابن عجلان، عن الأعرج، عن أبى هريرة، قال: قال رسول الله: (إذا أتى أحدكم إلى الصلاة فلا يركع دون الصف حتى يأخذ مكانه منه). والثانى: لا تعد أن تسعى إلى الصلاة سعيًا يحفزك فيه النفس، كما روى حماد بن سلمة، عن زياد الأعلم، عن الحسن، عن أبى بكرة قال: (جئت ورسول الله راكع، وقد حفزنى النفس، فركعت دون الصف...)، وذكر الحديث. قال ابن القصار: فجاء يلهث وكان عليه السلام، أمرهم أن يأتوا الصلاة وعليهم السكينة. قال الطحاوى: ولا يختلفون فيمن صلى وراء إمام فى صف، فخلا موضع رجل أمامه أنه ينبغى له أن يمشى إليه، وفى تقدمه من صف إلى صف هو فيما بين الصفين فى غير صف، فلم يضره ذلك ولم يخرجه من الصلاة. فلو كانت الصلاة لا تجزئ إلا لقائم فى صف لفسدت على هذا صلاته لما صار فى غير صف، وإن كان ذلك أقل القليل، كما لو أن من وقف على موضع نجس أقل القليل وهو يصلى أفسد ذلك عليه صلاته، فلما أجمعوا أنهم يأمرون هذا بالتقدم إلى ما قد خلا أمامه من الصف، ولا يفسد ذلك عليه كونه فيما بين الصفين فى غير صف، دل ذلك أن من صلى دون الصف أن صلاته تجزئه.
قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ الرسول، فِيهِ مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ. - فيه: عِمْرَانَ بْنِ الحُصَيْنٍ: أنه صَلَّى مَعَ عَلِيٍّ بِالْبَصْرَةِ، فَقَالَ: ذَكَّرَنَا هَذَا الرَّجُلُ صَلاةً كُنَّا نُصَلِّيهَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ، فَذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ يُكَبِّرُ كُلَّمَا رَفَعَ، وَكُلَّمَا وَضَعَ. - وفيه: أَبو هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي بِهِمْ فَكَبِّرُ، كُلَّمَا خَفَضَ وَرَفَعَ، فَإِذَا انْصَرَفَ قَالَ: إِنِّي لأشْبَهُكُمْ صَلاةً بِرَسُولِ اللَّهِ. وترجم لحديث عمران: (باب إتمام التكبير فى السجود). - وزاد فيه: (فَكَانَ إِذَا سَجَدَ كَبَّرَ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ كَبَّرَ). وترجم لحديث أبى هريرة: (باب التكبير إذا قام من السجود). - وزاد فيه: عن أَبَى هُرَيْرَةَ: (أَنَ النبى، عليه السلام، كان يكبر إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلاةِ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْكَعُ، ثُمَّ يَقُولُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ حِينَ يَرْفَعُ صُلْبَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ، ثُمَّ يَقُولُ وَهُوَ قَائِمٌ: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَهْوِي، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ، ثُمَّ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي الصَّلاةِ كُلِّهَا، ثم يُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ مِنَ الثِّنْتَيْنِ بَعْدَ الْجُلُوسِ). - وذكر فيه حديث عِكْرِمَةَ قَالَ: صَلَّيْتُ خَلْفَ شَيْخٍ بِمَكَّةَ، فَكَبَّرَ ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ تَكْبِيرَةً، فَقُلْتُ لابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّهُ أَحْمَقُ، فَقَالَ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ، سُنَّةُ أَبِي الْقَاسِمِ. قال المؤلف: هذه الآثار تدل على أن التكبير فى كل خفض ورفع لم يكن مستعملاً عندهم، ولولا ذلك ما قال عمران: ذكرنا على صلاة رسول الله، ولا قال أبو هريرة: إنى لأشبهكم صلاة برسول الله، ولا أنكر عكرمة على الذى كبر اثنتين وعشرين تكبيرة، ولا نسبه إلى الحمق، وهذا يدل أن التكبير فى غير الإحرام لم يتلقه السلف على أنه ركن من أركان الصلاة، وقد فعله جماعة من السلف وتركه جماعة، ولم يقل أحد ممن فعله للذى لم يفعله إن صلاتك لا تتم إلا به. فممَّن كان يُتم التكبير ولا ينقصه فى الصلاة فى كل خفض ورفع: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلى، وابن مسعود، وابن عمر، وجابر، وأبو هريرة، وابن الزبير، ومن التابعين: مكحول، والنخعى، وهو قول مالك، والأوزاعى، والكوفيين، والشافعى، وأبى ثور، وعوام العلماء. وممن كان ينقص التكبير: ذكر الطبرى قال: سئل أبو هريرة: من أول من ترك التكبير إذا رفع رأسه وإذا وضعه؟ قال: معاوية. وعن عمر بن عبد العزيز، والقاسم، وسالم، وابن سيرين، وسعيد بن جبير مثله، واحتجوا بما رواه شعبة عن الحسن بن عمران، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه قال: صليت خلف النبى فكان لا يتم التكبير، وكان ابن عمر ينقص التكبير، قال مسعر: إذا انحط بعد الركوع للسجود لم يكبر، وإذا أراد أن يسجد الثانية من كل ركعة لم يكبر، وقال سعيد بن جبير: إنما هو شىء يزين به الرجل صلاته. وقال قوم من العلماء: التكبير إنما هو إذن بحركة الإمام وليس بسنة إلا فى الجماعة، فأما من صلى وحده فلا بأس عليه أن لا يكبر. وقال أحمد بن حنبل: كان ابن عمر لا يكبر إذا صلى وحده، واختلف أصحاب مالك فيمن ترك التكبير فى الصلاة، فقال ابن القاسم: من أسقط ثلاث تكبيرات من الصلاة فما فوقها سجد للسهو قبل السلام، فإن لم يسجد بطلت صلاته، وإن نسى تكبيرة واحدة أو اثنتين سجد السهو قبل السلام، فإن لم يفعل فلا شىء عليه. وروى عنه أن التكبيرة الواحدة لا سهو على من نسيها. وقال عبد الله بن عبد الحكم وأصبغ بن الفرج: ليس على من سها عن التكبير فى الصلاة كلها شىء إذا كبر للإحرام إلا سجود السهو، فإن لم يفعل حتى تباعد فلا شىء عليه، واختاره ابن المواز، وابن حبيب، وآثار هذا الباب تدل على صحة هذا القول، ولا سجود فيه عند الشافعى، قال ابن القصار: وعلى أصل أبى حنيفة فيه السجود، وحكى الطحاوى خلاف هذا القول قال: أجمعوا أن من ترك تكبير الركوع والسجود فصلاته تامة. وقال الطبرى: الحسن بن عمران مجهول، ولا يجوز الاحتجاج به، غير أنه وإن كان كذلك فإنا لا نرى صلاة من ترك شيئًا من التكبيرات سوى تكبيرة الإحرام فاسدة، وإن كان مخطئًا سنته عليه السلام، لإجماع سلف الأمة وخلفها أن صلاة من فعل ذلك غير فاسدة. وفى تكبير أبى هريرة كلما خفض ورفع من الفقه أن التكبير ينبغى أن يكون من الخفض والرفع من الفعل سواء، لا يتقدمه ولا يتأخر عنه، فهذا قول أكثر العلماء، ذكره الطحاوى عن الكوفيين، والثورى، والشافعى، قالوا: ينحط للركوع والسجود وهو مكبر، وكذلك يفعل فى حال الرفع، وفى حال القيام من الجلسة الأولى، يكبر فى حال القيام وكذلك قال مالك، إلا فى حال القيام من الجلسة الأولى فإنه يقول: لا يكبر حتى يعتدل قائمًا، هذا قوله فى المدونة، وفى (المبسوط): روى ابن وهب عن مالك: إن كبر بعد استوائه فهو أحب إلىَّ، وإن كبر فى نهوضه بعد ما يفارق الأرض فأرجو أن يكون فى سعة. قال الطحاوى: فأخبر فى هذا الحديث أن التكبير كان فى حال الخفض والرفع، ولما اتفقوا فى الخفض والرفع أن الذكر مفعول فيه وجب أن يكون كذلك حال القيام من الجلسة الأولى. وسأذكر وجه قول مالك أنه لا يكبر حتى يعتدل قائمًا، فى أبواب السجود فى باب يكبر وهو ينهض بين السجدتين، إن شاء الله.
وَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ فِي أَصْحَابِهِ: أَمْكَنَ الرسول يَدَيْهِ مِنْ رُكْبَتَيْهِ. - فيه: مُصْعَبَ بْنَ سَعْدٍ قال: صَلَّيْتُ إِلَى جَنْبِ أَبِي، فَطَبَّقْتُ بَيْنَ كَفَّيَّ، ثُمَّ وَضَعْتُهُمَا بَيْنَ فَخِذَيَّ، فَنَهَانِي أَبِي، وَقَالَ: كُنَّا نَفْعَلُهُ، فَنُهِينَا عَنْهُ، وَأُمِرْنَا أَنْ نَضَعَ أَيْدِينَا عَلَى الرُّكَبِ. اتفق فقهاء الأمصار على القول بهذا الحديث، وروى ذلك عن عمر بن الخطاب، وعلى بن أبى طالب، وسعد بن أبى وقاص، وابن عمر، وجماعة من التابعين، وكان عبد الله بن مسعود، والأسود بن يزيد، وأبو عبيدة يضعون أيديهم بين ركبهم إذا ركعوا، وقال ابن مسعود: هكذا فعل النبى، عليه السلام. قال الطحاوى: وما روى عن ابن مسعود فى ذلك منسوخ بحديث سعد؛ ألا ترى قوله: كنا نفعله فنهينا عنه، وروى شعبة عن أبى حصين، عن أبى عبد الرحمن قال: قال عمر:...، فقد سُنَّتْ لكم الركب، قال الطحاوى: ثم التمست ذلك من طريق النظر، فرأيت التطبيق فيه التقاء اليدين، ورأيت وضع اليدين على الركبتين فيه تفرقهما، فأردنا أن ننظر فى حكم ذلك كيف هو؟ فرأينا السنة جاءت عن الرسول بالتجافى فى الركوع والسجود، وأجمع المسلمون على ذلك، وكان ذلك تفريق الأعضاء، وكان من قام إلى الصلاة أمر أن يراوح بين قدميه، وقد روى ذلك عن ابن مسعود، وهو الذى روى التطبيق، فلما رأينا تفريق الأعضاء أولى من إلزاق بعضها إلى بعض، واختلفوا فى إلصاقها وتفريقها فى الركوع كان النظر على ذلك أن يكون ما اختلفوا فيه من ذلك معطوفًا على ما أجمعوا عليه، ولما كانت السنة تفريق الأعضاء كان فيما ذكرنا أيضًا، فثبت نسخ التطبيق ووجوب وضع اليدين على الركبتين.
- فيه: حُذَيْفَةُ: أنه رَأَى رَجُلا لا يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَلا السُّجُودَ، قَالَ: مَا صَلَّيْتَ، وَلَوْ مُتَّ، مُتَّ عَلَى غَيْرِ الْفِطْرَةِ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم عَلَيْهَا. قد تقدم الكلام فى هذا الباب فى (باب الخشوع فى الصلاة)، فأغنى عن إعادته، قال المهلب: نفى عنه الفعل بما انتفى عنه من التجويد، وهذا معروف فى لسان العرب، كما قال صلى الله عليه وسلم: (لا يزنى الزانى وهو مؤمن)، نفى عنه بِقِلَّةِ التجويد للإيمان اسمهُ، وكذلك قول حذيفة للرجل: ما صليت، أى: صلاة كاملة، ولو متَّ متَّ على غير فطرة محمد، وسمى الصلاة فطرة؛ لأنها أكبر عُرى الإيمان. وسأذكر اختلاف أهل العلم فيمن لم يتم الركوع فى باب أمر الرسول الذى لا يتم ركوعه بالإعادة، إن شاء الله تعالى.
وَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ فِي أَصْحَابِهِ: رَكَعَ النَّبِيُّ عليه السلام، ثُمَّ هَصَرَ ظَهْرَهُ.
- فيه: الْبَرَاءِ قَالَ: كَانَ رُكُوعُ النَّبِيِّ عليه السلام، وَسُجُودُهُ وَبَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، مَا خَلا الْقِيَامَ وَالْقُعُودَ، قَرِيبًا مِنَ السَّوَاءِ. قال المهلب: هذه الصفة أكمل صفات صلاة الجماعة، وأما صلاة الرجل وحده، فله أن يطول فى الركوع والسجود أضعاف ما يطول فى القيام بين السجدتين وبين الركعة والسجدة، وأما أقل ما يجزئ من ذلك فما قال ابن مسعود، قال: إذا أمكن الرجل يديه من ركبتيه، فقد أجزأه، وكانت ابنة سعد تفرط فى الركوع تطأطئًا منكرًا، قال لها سعد: إنما يكفيك إذا وضعت يديك على ركبتيك، وقاله ابن سيرين، وعطاء، ومجاهد، وهو قول عامة الفقهاء. وروى أبو الجوزاء عن عائشة قالت: كان النبى، عليه السلام، إذا ركع لم يشخص رأسه ولم يصوبه، كان بين ذلك. وقال عبد الرحمن بن أبى ليلى: كان عليه السلام، لو صُبَّ بين كتفيه ماء لاستقر، وقال أبو هريرة: اتق الحنوة فى الركوع والحدبة، وهذا هو هصر الظهر. وقال صاحب (العين): هصرت الشىء: إذا جذبته وكسرته إليك من غير بينونة، وقال صاحب (الأفعال): هصر الشىء هصرًا: أخذ بأعلاه ليميله إلى نفسه، وهصر الأسد فريسته: كسرها.
- فيه: أَبو هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام، دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَدَخَلَ رَجُلٌ، فَصَلَّى، ثُمَّ جَاءَ، فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ، فَرَدَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِ السَّلامَ، فَقَالَ: (ارْجِعْ، فَصَلِّ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ، فَصَلَّى، ثُمَّ جَاءَ إلَى النَّبِيِّ، فَقَالَ: ارْجِعْ، فَصَلِّ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ، ثَلاثًا، فَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ فَمَا أُحْسِنُ غَيْرَهُ، فَعَلِّمْنِي، قَالَ: إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاةِ فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلاتِكَ كُلِّهَا). قال المؤلف: استدل بهذا الحديث جماعة من الفقهاء، فقالوا: الطمأنينة فى الركوع والسجود فرض، لا تجزئ صلاة من لم يرفع رأسه، ويعتدل فى ركوعه وسجوده ثم يقيم صلبه، وقالوا: ألا ترى أن الرسول قال له: (ارجع فصل فإنك لم تصل)، ثم علمه الصلاة وأمره بالطمأنينة فى الركوع والسجود، هذا قول الثورى، وأبى يوسف، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وابن وهب صاحب مالك قال: من لم يعتدل قائمًا من ركوعه حتى يسجد فلا يعتد بتلك الركعة. وفيها قول آخر، روى ابن القاسم عن مالك فى (العتبية) قال: من رفع رأسه من الركوع فلم يعتدل قائمًا حتى يسجد يجزئه ولا يعود، وقاله ابن القاسم فى كتاب سحنون، وروى ابن وهب عن مالك مثل ذلك فى (العتبية). وروى عيسى عن ابن القاسم فيمن رفع رأسه من السجود، فلم يعتدل جالسًا حتى سجد: يستغفر الله ولا يعود. وذكر ابن المواز عن ابن القاسم مثله، وهو قول أبى حنيفة، ومحمد. وكذلك اختلفوا فيمن خرَّ من ركوعه ساجدًا، ولم يرفع رأسه، فروى عيسى عن ابن القاسم أنه لا يعتد بتلك الركعة، واستحب مالك أن يتمادى ويعيد الصلاة، وفى (المجموعة) روى على بن زياد، عن مالك أن من فعل ذلك ساهيًا، فليسجد قبل السلام وتجزئه تلك الركعة، وفى (الواضحة) عن ابن كنانة: تجزئه تلك الركعة، واحتج أبو عبد الله بن أبى صفرة لهذا القول أن النبى، عليه السلام، أمر هذا الرجل حين لم يكمل الركوع والسجود بالإعادة، ولم يأمر الذين نقصوا الركوع والسجود بالإعادة حين قال لهم: (إنى أراكم من وراء ظهرى)، فدل ذلك من فعله أن الطمأنينة لو كانت فريضة، لما ترك الذين قال لهم: لا يخفى علىّ خشوعكم حتى يبين لهم ذلك؛ لأنه بُعث معلمًا. قال المهلب: والدليل على صحة هذا القول أنه لما أمر الذى لم يحسن صلاته بالإعادة مرة بعد أخرى، ولم يحسن قال له: والله ما أحسن غير هذا فعلِّمنى، فوصف له عليه السلام هيئة الصلاة، ولم يأمره أن يعيد الصلاة التى نقصها مرة أخرى على الصفة التى علمه، ولم يقل له: لا يجزئك حتى تصلى هذه الصلاة على هذه الصفة، وإنما علمه كيف يصلى فيما يستقبل. واحتج الرازى لأبى حنيفة بحديث رفاعة بن رافع فى تعليم الأعرابى أن النبى، عليه السلام، قال له: (ثم ارفع فاعتدل قائمًا...)، وذكر الحديث قال: إذا صليت على هذا فقد أتممتها، وما أنقصت من ذلك فإنما تنقص من صلاتك، فجعلها ناقصة يدل على الجواز.
- فيه: عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ عليه السلام، يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: (سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي). وترجم له: (باب التسبيح والدعاء فى السجود)، وزاد فيه بعد قوله: (اللهم اغفر لى)، (يتأول القرآن به). قال الطحاوى: اختلف العلماء فيما يدعو به الرجل فى ركوعه وسجوده، فقالت طائفة: لا بأس أن يدعو الرجل بما أحب، وليس عندهم فى ذلك شىء موقَّت، قالوا: وقد رويت آثار كثيرة عن الرسول أنه كان يدعو بها. منها: حديث موسى بن عقبة، عن عبد الله بن الفضل، عن الأعرج، عن عبيد الله بن أبى رافع، عن على بن أبى طالب قال: كان رسول الله يقول فى ركوعه: (اللهم لك ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت، وأنت ربى، خشع سمعى وبصرى، ومخى وعظمى، وعصبى لله رب العالمين)، ويقول فى سجوده: (اللهم لك سجدت، ولك أسلمت، وأنت ربى، سجد وجهى للذى خلقه وشق سمعه وبصره، تبارك الله أحسن الخالقين). ومنها: حديث يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة قالت: فقدت النبى، عليه السلام، ذات ليلة، فظننت أنه أتى جاريته، فالتمسته فوقعت يدى على صدور قدميه وهو ساجد، وهو يقول: (اللهم إنى أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بعفوك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصى ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك). إلا أن مالكًا كره الدعاء فى الركوع، ولم يكره فى السجود، واقتصر فى الركوع على تعظيم الله تعالى، والثناء عليه، أظنه ذهب إلى حديث على عن النبى، عليه السلام، قال: (أما الركوع فعظموا فيه الرب وأما السجود فاجتهدوا فيه فى الدعاء)، فجعل فى هذا الحديث الركوع لتعظيم الله، تعالى، وإن كانت قراءة القرآن أفضل من ذكر التعظيم، فلذلك ينبغى أن يكون فى كل موضع ما جعل فيه، وإن كان غيره أشرف منه. ويؤيد هذا المعنى ما روى الأعمش عن النخعى قال: كان يقال إذا بدأ الرجل بالثناء قبل الدعاء استوجب، وإذا بدأ بالدعاء قبل الثناء كان على الرجاء. وروى ابن عيينة عن منصور بن المعتمر، عن مالك بن الحويرث، قال: (يقول الله: إذا شغل عبدى ثناؤه علىّ عن مسألتى أعطيته أفضل ما أعطى السائلين)، فلهذه الآثار كره مالك الدعاء فى الركوع، واستحبه فى السجود، والله أعلم. وقال أهل المقالة الأولى: تعظيم الرب والثناء عليه عند العرب دعاء، قاله ابن شهاب وهو حجة فى اللغة، وقد ثبت فى حديث عائشة المذكور فى هذا الباب الدعاء فى الركوع والسجود فلا معنى لمخالفة ذلك. وقالت طائفة: ينبغى له أن يقول فى ركوعه: سبحانك ربى العظيم ثلاثًا، وفى سجوده: سبحان ربى الأعلى ثلاثًا، واحتجوا بما رواه موسى بن أيوب عن عمه إياس بن عامر، عن عقبة بن عامر الجهنى، قال: لما نزلت: (فسبح باسم ربك العظيم} [الواقعة: 74]، قال عليه السلام: (اجعلوها فى ركوعكم)، ولما نزلت: (سبح اسم ربك الأعلى} [الواقعة: 96]، قال: (اجعلوها فى سجودكم). وروى مرة إياس بن عامر، عن على بن أبى طالب، وذكر مثله، هذا قول الكوفيين، والأوزاعى، والشافعى، وأبى ثور، إلا أنهم لم يوجبوا ذلك، وقالوا: من ترك التسبيح فى الركوع والسجود فصلاته تامة، وقال إسحاق، وأهل الظاهر: إن ترك ذلك عليه الإعادة، وقال: حديث عقبة ورد مورد البيان فوجب امتثاله. فيل لهم: البيان إنما ورد فى المجمل، والركوع والسجود مفسر فلا يفتقر إلى بيان، فحمل حديث عقبة على الاستحباب بدليل تعليمه الأعرابى الصلاة وليس التسبيح منها، فلو وجب فى الركوع والسجود ذكر معين لا تجزئ الصلاة دونه لبيَّن ذلك النبى لأمته؛ لأنه قد بيَّن لهم فروض الصلاة وسننها، ولأخبرهم أن ما كان روى عنه من ضروب الدعاء والذكر فى الركوع منسوخ بحديث عقبة، فلما لم يثبت ذلك سقط قول أهل الظاهر وقول من شرط فى ذلك ذكرًا معينًا أيضًا. قال ابن القصار: لو قال: سبحان ربى الجليل، أو الكبير، أو القدير لكان معظمًا له، وإذا ثبت أن نفس التسبيح ليس بواجب، فتعيينه والعدول عنه إلى ما فى معناه جائز. وقوله: يتأول القرآن، يعنى: يتأول قوله تعالى: {فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابًا} [النصر: 3]، حين أعلمه الله بانقضاء أجله. وقال الخطابى: أخبرنى الحسن بن خلاد قال: سألت الزجاج عن قوله: سبحانك اللهم وبحمدك، والعلة فى ظهور الواو؟ قال: سألت عنه المبرد فقال: سألت عنه المازنى، فقال: المعنى: سبحانك اللهم بجميع آلائك، وبحمدك سبحتك، وقال: ومعنى سبحانك: سبحتك، وسبحان الله معناه: سبحت الله ونزهته عن كل عيب، ونصبه على المصدر.
- فيه: أَبو هُرَيْرَةَ قَالَ: (كَانَ النَّبِيُّ إِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، قَالَ: اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، وَكَانَ إِذَا رَكَعَ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ يُكَبِّرُ، وَإِذَا قَامَ مِنَ السَّجْدَتَيْنِ، قَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ). ترجم له البخارى: (باب القراءة فى الركوع والسجود)، ولم يُدخل فيه حديثًا بجواز ذلك ولا بمنعه. وقد روى عن النبى، عليه السلام، أنه نهى عن قراءة القرآن فى الركوع والسجود، ذكره الطبرى قال: أخبرنا عبد الله بن أبى زياد، قال: حدثنا عثمان بن عمر، قال: حدثنا داود بن قيس، عن إبراهيم بن جبير، عن أبيه، عن ابن عباس، عن على قال: (نهانى حبيبى صلى الله عليه وسلم أن أقرأ راكعًا وساجدًا). واتفق فقهاء الأمصار على القول بهذا الحديث، وخالفه قوم من السلف وأجازوه، روى أبو إسحاق، عن عمرو بن ميمون قال: سمعت أخى سليمان بن ربيعة وهو ساجد، وهو يقول: بسم الله الرحمن الرحيم، ما لو شاء رجل يذهب إلى أهله فيتوضأ، ثم يجىء، وهو ساجد لفعل، وقال عطاء: رأيت عبيد بن عمير يقرأ وهو راكع فى المكتوبة، وأجازه الربيع بن خثيم، وقال إبراهيم النخعى فى الرجل ينسى الآية فيذكرها وهو راكع، قال: يقرؤها وهو راكع. قال الطبرى: وهؤلاء لم يبلغهم الحديث بالنهى عن ذلك عن الرسول، أو بلغهم فلم يَرَوْهُ صحيحًا، ورأوا قراءة القرآن حسنة فى كل حال، قال الطبرى: والخبر عندنا بذلك صحيح، فلا ينبغى لمصل أن يقرأ فى ركوعه وسجوده من أجله، وعلى هذا جماعة أئمة الأمصار. واختلف العلماء فيما يقول الإمام ومن خلفه إذا رفع رأسه من الركوع، فذهبت طائفة إلى الأخذ بحديث سعيد المقبرى، عن أبى هريرة، وقال: ينبغى للإمام أن يقول: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، يجمعهما جميعًا، ثم يقول المأموم: ربنا ولك الحمد خاصة، هذا قول أبى يوسف، ومحمد بن الحسن، والشافعى، وابن نافع صاحب مالك، إلا أن الشافعى خالفهم فى المأموم، فقال: يقول: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، كالإمام سواء. وقالت طائفة: يقول الإمام: سمع الله لمن حمده دون المأموم، ويقول المأموم: ربنا ولك الحمد، هذا قول مالك والليث وأبى حنيفة، واحتجوا لهذا القول بحديث مالك عن سُمى، عن أبى صالح، عن أبى هريرة: (أن نبى الله قال: إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد). قال ابن القصار: فأفرد الإمام بغير ما أفرد به المأمومين، ولو كان الإمام يجمع الأمرين لقال عليه السلام: إذا قال الإمام: ربنا ولك الحمد، فقولوا: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، حتى يكون ابتداء قولهم بعد انتهاء قوله، كما قال: وإذا كبر فكبروا، ولم يكن للفرق بينهما معنى، وحديث أبى صالح قاضٍ على حديث المقبرى ومبيِّن له، ويحتمل أن يكون عليه السلام، يقول: سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد إذا كان منفردًا فى صلاته، وإنما سقط سمع الله لمن حمده للمأموم لاختلاف حاله وحال الإمام فى الصلاة، وأن الإمام مجيب للدعاء، كما قسم عليه السلام الذكر بين العاطس والمشمت، فكذلك قسم هذا الذكر بين الإمام والمأموم، وقول الإمام: سمع الله لمن حمده استجابة لدعاء داع، وقول المأموم: ربنا ولك الحمد على وجه المقابلة؛ لأنه لا حامد له غير المؤتم به فى هذه الحال، فلا يشرك أحدهما صاحبه. وقال أهل المقالة الأولى: ليس فى قوله عليه السلام: (وإذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد)، دليل على أن ذلك يقوله الإمام دون غيره، ولو كان كذلك لاستحال أن يقولها من ليس بمأموم، فقد رأيناكم تُجمعون على أن المصلى وحده يقولها مع قوله: سمع الله لمن حمده، فلما قالها المنفرد ولم ينتف ما ذكرنا من قوله عليه السلام، كان الإمام كذلك يقولها أيضًا، ولا ينفى ما قال رسول الله، واحتجوا أيضًا بما رواه ابن وهب، عن يونس، عن الزهرى، عن سعيد وأبى سلمة، عن أبى هريرة قال: (كان رسول الله يقول حين يفرغ من صلاة الفجر من القراءة يكبر ويرفع رأسه يقول: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، اللهم أنج الوليد بن الوليد...) الحديث. وبه قال ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة، قالت: (خسفت الشمس فى حياة رسول الله فصلى بالناس، فلما رفع رأسه من الركوع قال: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد). قال الطحاوى: هذا من طريق الآثار، وأما من طريق النظر، فإنا قد رأيناهم أجمعوا أن المنفرد يقول ذلك، فأردنا أن ننظر فى الإمام هل حكمه حكم من يصلى وحده أم لا، فوجدنا الإمام يفعل فى صلاته كلها من التكبير والقراءة مثل ما يفعله المنفرد، ووجدنا أحكامه فيما يطرأ عليه كأحكامه، وكان المأموم فى ذلك بخلاف الإمام والمنفرد، وثبت باتفاقهم أن المصلى وحده يقول: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد ثبت أن الإمام يقولها أيضًا كذلك.
- فيه: أَبِي هُرَيْرَةَ: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ: (إِذَا قَالَ الإمَامُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا: اللَّهُمَّ رَبَّنَا ولَكَ الْحَمْدُ، فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ الْمَلائِكَةِ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ). - وقال أبو هُرَيْرَةَ: لأقَرِّبَنَّ صَلاةَ رسول الله، فَكَانَ يَقْنُتُ فِي الرَّكْعَةِ الآخِرَةِ مِنْ صَلاةِ الظُّهْرِ، وَصَلاةِ الْعِشَاءِ، وَصَلاةِ الصُّبْحِ، بَعْدَ مَا يَقُولُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَيَدْعُو لِلْمُؤْمِنِينَ، وَيَلْعَنُ الْكُفَّارَ. - وفيه: رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ قَالَ: (كُنَّا يَوْمًا نُصَلِّي وَرَاءَ الرسول، فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ، قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، قَالَ رَجُلٌ وَرَاءَهُ: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ، قَالَ: مَنِ الْمُتَكَلِّمُ؟ قَالَ: أَنَا، قَالَ: رَأَيْتُ بِضْعَةً وَثَلاثِينَ مَلَكًا يَبْتَدِرُونَهَا، أَيُّهُمْ يَكْتُبُهَا أَوَّلُ). وقد تقدم كلام العلماء فى حديث أبى هريرة فى الباب قبله، فأغنى عن إعادته. وفيه: أن القنوت كان فى صلاة الظهر وصلاة العشاء وصلاة الصبح، ثم ترك فى الظهر والعشاء. وفى حديث رفاعة: ثواب التحميد لله، تعالى، والذكر له وما عند الله أكثر وأوسع، قال الله تعالى: {فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين} [السجدة: 17]. وفيه: دليل على جواز رفع المذكر صوته بالتكبير والتحميد فى المساجد الكثيرة الجمع ليسمع الناس، وليس ذلك بكلام تفسد به الصلاة، وكيف يفسدها، رفع الصوت أم لم يرفع، وهو مندوب إليه فيها، وكما لا يجوز لأحد أن يتكلم فى الصلاة بكلام الناس، وإن لم يرفع صوته، فكذلك لا يضره رفع الصوت بالذكر؛ يدل على ذلك حديث معاوية بن الحكم عن الرسول أنه قال: (أن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شىء من كلام الناس، وإنما هو التهليل والتكبير، وقراءة القرآن)، فأطلق أنواع الذكر فى الصلاة، فلهذا قلنا: إن المذكر إذا رفع صوته ب (ربنا ولك الحمد)، وسائر التكبير لا يضره، وقد خالف ذلك بعض المتأخرين بلا دليل ولا برهان، وقد تقدم ذكر ذلك فى باب من أسمع الناس تكبير الإمام قبل هذا.
وَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ: رَفَعَ النَّبِيُّ عليه السلام، رأسه حَتَّى يَعُودَ كُلُّ فَقَارٍ مَكَانَهُ. - فيه: أَنَسٌ: نعَتُ صَلاةَ رسول الله، فَكَانَ يُصَلِّي: فَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، قَامَ، حَتَّى نَقُولَ: قَدْ نَسِيَ. - وفيه: الْبَرَاءِ قَالَ: كَانَ رُكُوعُ الرسول وَسُجُودُهُ، وَإِذَا رَفَعَ مِنَ الرُّكُوعِ، وَبَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، قَرِيبًا مِنَ السَّوَاءِ. - وفيه: مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ: أنه أراهم صَلاةُ رسول الله- وَذَلكَ فِي غَيْرِ وَقْتِ صَلاةٍ- فَقَامَ، فَأَمْكَنَ الْقِيَامَ، ثُمَّ رَكَعَ، فَأَمْكَنَ الرُّكُوعَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فَأَنْصَبَ هُنَيَّئةً، فَصَلَّى بِنَا صَلاةَ شَيْخِنَا أَبِي يزيد...، الحديث. قال المؤلف: هذه الصفة فى الصلاة حسنة لمن التزمها فى خاصة نفسه، غير أن فعل أنس ومالك بن الحويرث، ونعتهما صلاة رسول الله بهذه الصفة يدل أنهم كانوا لا يبالغون فى الطمأنينة فى الرفع من الركوع ولا بين السجدتين مثل ما ذكر فى الحديث عن الرسول، فأراهم أنس ومالك بن الحويرث ذلك، ولم يقولا لهم: إن صلاتكم هذه التى تقصرون فيها عن بلوغ هذا الحد من الطمأنينة لا تجوز، وإن كانت هذه الصفة أفضل لمن قدر عليها. وقد قال أبو أيوب فى باب المكث بين السجدتين بعد ذلك: وقد كان أبو يزيد يفعل شيئًا لم أرهم يفعلونه، وكذلك قال ثابت: عن أنس فى ذلك الباب أنه كان يصنع شيئًا لم أراكم تصنعونه: كان إذا رفع رأسه من الركوع قام حتى يقول القائل: قد نسى، وبين السجدتين كذلك، فدل أن الذى كانوا يصنعونه فى ذلك من خلاف هذه الآثار جائز أيضًا؛ إذ لا يجوز أن يتفق الصحابة على صفة من الصلاة إلا وهى جائزة. هذا المفهوم من هذه الآثار، وقد ترجم لحديث مالك بن الحويرث، ولحديث البراء، ولحديث أنس: (باب المكث بين السجدتين).
وَقَالَ نَافِعٌ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَضَعُ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ. - فيه: أَبَو هُرَيْرَةَ: أنه كَانَ يُكَبِّرُ فِي كُلِّ صَلاةٍ مِنَ الْمَكْتُوبَةِ وَغَيْرِهَا فِي رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ، فَيُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْكَعُ، ثُمَّ يَقُولُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، ثُمَّ يَقُولُ: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ قَبْلَ أَنْ يَسْجُدَ، ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ، حِينَ يَهْوِي سَاجِدًا...، الحديث. - وفيه: حديث أَنَسَ: أن النبى، عليه السلام، ركب فَرَسًا- فَجُحِشَ شِقُّهُ، فَصَلَّى قَاعِدًا...، إلى قوله: (وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا). وقد تقدم معنى هذا الباب: أن التكبير فى الصلاة كلها مع الخفض والرفع، فى (باب إتمام التكبير فى الركوع)، فلا معنى لإعادة القول فيه، ولا خلاف فيه بين الفقهاء إلا فى تكبير القيام من ثنتين، وسيأتى ذلك فى (باب يكبر وهو ينهض بين السجدتين)، إن شاء الله. واختلفوا فى وضع اليدين قبل الركبتين فى السجود، فذهب مالك، والأوزاعى إلى ما روى فى ذلك عن ابن عمر، رواه أبو مصعب عن مالك فى (المبسوط)، قال: وهو أحسن فى سكينة الصلاة ووقارها، والحجة لذلك ما رواه أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبى هريرة أن النبى قال: (إذا سجد أحدكم فليضع يديه على الأرض قبل ركبتيه ولا يبرك بروك البعير)، ذكره إسماعيل بن إسحاق، وروى ابن عبد الحكم عن مالك أنه يضع أيهما شاء قبل صاحبه، وذلك واسع، ذكره ابن حبيب. وقالت طائفة: يضع ركبتيه قبل يديه روى ذلك عن عمر بن الخطاب، وهو قول الثورى والكوفيين، وذكر ابن شعبان عن مالك مثله، وبه قال ابن وهب، والشافعى، وأحمد، وإسحاق. وحجتهم حديث وائل بن حجر: (أن النبى، عليه السلام، بدأ فوضع ركبتيه قبل يديه). قال الطحاوى: اتفقوا أنه يضع رأسه بعد يديه وركبتيه، ثم يرفعه قبلهما، ثم كانت اليدان متقدمتين فى الرفع، فوجب أن تكون مؤخرتين فى الوضع.
|